يقع الأطفال في لبنان في مرمى الحرب الهوجاء التي يشنّها العدو منذ سنة واستعرت خلال الشهر الماضي، بدءاً من تعرضهم للقضف المباشر وقتل العشرات وجرح المئات منهم عمداً داخل منازلهم، ومطاردتهم حتى في أماكن نزوحهم، مروراً بترهيبهم بأصوات الغارات و«شخرة» الصواريخ، وصور الدمار والجثث المشوّهة والخوف من الموت، وليس آخرها تهجيرهم إلى أماكن غير مهيأة للعيش الكريم وتفتقر إلى أبسط مستلزمات الحياة. كلّ هذا الخرق «يحفر عميقاً في أذهان الأطفال ونفوسهم، رغم نعومة أظفارهم، ويؤدي إلى اضطرابات إذا ما تعاملنا معه بوعي، إلى جانب مروحة واسعة من الآثار ترتبط بحالات الذعر الشديد، والتصاق إضافي بالأهل، وكوابيس ليلية، وانقطاع الشهية أو الإفراط في الطعام، وأحياناً سلوكيات عنفية متبادلة بين الأطفال، وقد تصل الحالة إلى التلعثم»، بحسب المستشارة الدولية في حماية الطفل والرعاية البديلة زينة علوش. وفعلاً، بدأت آثار الحرب تظهر جليّاً على الأطفال من خلال ما ينقله الأهالي لـ «الأخبار» من «تصرفات غريبة كلما سمعوا صوت قصف، ومنهم من يضربون على رؤوسهم قائلين: إجوا لينا، ومنهم من يضعون أيديهم على آذانهم ويجلسون أرضاً ويصرخون بحالة هستيرية». وينعكس الخوف أيضاً في حالات تبوّل لاإرادي، وتقيؤ، وبكاء شديد، وكزّ على الأسنان. ولا ينحصر الخوف في لحظات القصف، بل يمتد إلى الخوف والقلق الدائمين على السلامة الشخصية وأفراد العائلة الصغيرة والممتدة، إذ تلازم فاطمة (خمس سنوات) إمساك فستان والدتها وتسأل كلما خرجت للتسوق: «هل سيضرب الصاروخ ماما؟»، عدا تخيّل أصوات مرعبة، وخصوصاً ليلاً، إذ لا يستطيع مصطفى (10 سنوات) النوم، مثلاً، بسبب أصوات يتخيّلها تخرج من الشباك، وأيّ صوت يصدر مثل إغلاق الباب يثير الرعب لديه.
في ظلّ النزوح، انقلب نظام حياة الأطفال رأساً على عقب بعدما خرجوا من بيوتهم، وانقطعوا عن مدارسهم ونشاطاتهم، وافترقوا عن أصحابهم، وفيما لا يسمح لهم وضع أهلهم المادي والنفسي بالترفيه، وجدوا أنفسهم حبيسي منازلهم. تقول إحدى الأمهات إنه «يزداد تذمّر أولادها لأنهم لا يجدون سبيلاً لتمضية الوقت فيفشّون خلقهم بالأكل». كما أنّ وجود الأطفال في منازل غير مفروشة أو غير مجهّزة، وغالباً مكتظة بالعائلات يزيد من حنقهم وقلقهم من عدم العودة إلى الحياة السابقة، لذلك يسألون باستمرار: هل سنجد بيتنا؟ رفاقنا؟ مدرستنا؟ وهي أسئلة غالباً لا يملك الكبار إجابات عنها. ويكون وضع الأطفال في مراكز الإيواء أكثر كارثية بسبب ظروف الحياة الضاغطة عليهم، ذلك أنّ «الحماية لا تكون من القصف فحسب، بل بتأمين الاحتياجات الأساسية المفقودة في كثير من المراكز مثل الفرش والأغطية وتهديد النظافة الشخصية وخطر الأمراض، وبشكل أساسي الحفاظ على خصوصية كل عائلة»، بحسب علوش. ورغم أنّ الجمعيات والكشّاف والأكاديميات والمشاهير يمرّون على الأطفال في مراكز النزوح لكسر الروتين من خلال إقامة نشاطات رسم وتلوين ولعب، لكن «لا شيء يخفي الحزن الذي يبدو على وجوههم والذي يبررونه بالشوق إلى منازلهم وأقاربهم وأصحابهم، وحزنهم على من فقدوه خلال الحرب»، كما تقول إحدى الكشفيات. وتعلّق علوش على فيديو انتشر في مواقع التواصل الاجتماعي لمديرة مدرسة تمنع الزيارات على النازحين بالقول إنه «بغض النظر عن الأسباب، لكن لا بدّ من وضع حماية وأطر تنظيميمة لأماكن النزوح ورغم أنّ الزيارات مهمة في هذه الأوضاع، لكن لتكن خارج المراكز بما يضمن حماية الأطفال والراشدين والراشدات من التحرش وغيرها من الاعتداءات».
وتلفت علوش إلى أن التعاطي مع الأثر النفسي للحرب والنزوح «يبدأ من سِنّ ما قبل الولادة، ويمتد طوال مرحلة الطفولة المبكرة والمتأخرة، لأن ما يختبره الأهل يحفر عميقاً في وجدان الأجنة والرضع والأطفال، وتعدّ مرحلة المراهقة المبكرة الأكثر دقة في التعاطي مع تبعات الحرب لأن هذه الفئة أكثر وعياً وإدراكاً لما يحصل». ورداً على رغبة بعض الأهل في الاستعانة بمعالج نفسي لتخفيف آثار الحرب عن أولادهم، ترى علوش أنه مطلوب في حالات معينة، لكن عموماً «يمكن الاستعاضة عنه في هذه المرحلة بدعم الأهل لأولادهم وطمأنتهم إلى أنها فترة وتزول، والوقوف إلى جانبهم وبذل قصارى جهدهم لحمايتهم ومدّهم بالأمان وبمكان لائق تتوفر فيه الخدمات الأساسية»، مشيرة في الوقت نفسه إلى حال الأهالي التي لا تقلّ سوءاً عن حالة أولادهم من قلق على الأنفس والبيوت والأملاك والمستقبل، ما يتطلب عدم ترك الحمل كله على عاتقهم، بل تدخّل جهات حكومية والجمعيات الأهلية والمنظمات الدولية المعنية». ورغم ردّات فعل النازحين السلبية تجاه خيار التعليم عن بعد، إلا أنه، «يعدّ إحدى وسائل إشغال الأطفال بمساحة ليتواصلوا مع طفولتهم ويعودوا إلى ذواتهم ككيان بشري يتمتع بحقوق وحصة من الاهتمام خارج واقع التشرد والنزوح، على أن تتوفر شروط التعليم عن بعد لجميع الأطفال بعدالة، ويعرف الأساتذة أن دورهم يتخطّى المنهاج إلى دعم الأطفال في هذه الظروف».