لم يعد يخفى على أحد أنّ النقّاد والمختصّين بدراسة اللّغات وفقهها، قد اجمعوا على فرادة اللّغة العربيّة، في غناها واتّساعها المعرفي، وتمايزها عن لغات العالم، في أصالتها ومكانتها وتراثها الفكري والعلمي والحضاري، التي لا تقاربها لغة أخرى، في قدرتها على المرونة في التعاطي مع قضايا العصر، وموضوعات المجتمع والإنسان، بمختلف أوجه العلوم، وأضربة الفنون المتنوّعة، سواء كانت علميّة، أو أدبيّة، أو دينيّة، وهي اللّغة المباركة، التي خصّها الله جلّ شأنه برسالة خاتم الأنبياء الى العالم أجمع، بلغة الضاد التي اصطفاها سبحانه عن غيرها من اللغات لتكون لغة قرآنه الكريم، ولتنزل بها الرسالة الخاتمة، وتكون جامعة للشعوب العربيّة الإسلاميّة، بمميّزاتها الخاصّة البلاغيّة والإعجازيّة، وريادتها في سعة حروفها في العلم والمعرفة، والتواصل الإنساني بين الشعوب والأمم كافّة.
قال عنها شيخ الاسلام ابو العباس ابن تيميّة إنّ جنس العرب أفضل من جنس العجم، عبرانيهم وسريانيهم ورومهم وفرسهم، وإنّ قريشًا أفضل العرب، وإنّ بني هاشم أفضل قريش، وإنّ رسول الله أفضل بني هاشم، وهو أفضلهم نفسًا ونسبًا، ولإنّ فيها ما يؤهّلها لأن تؤدّي المعنى بعمق، يستطيع معه الإنسان أن يستنبط الاحكام الفقهية الى يوم الدين، وهذا لا يعني أنّ العرب متفوقّون بل لأنّ الله اختار شعبًا ولغة يقدّران حساسيّة أدقّ الفروق الدينيّة والروحيّة، ولأنّ اللّغة والدين هما أهمّ ما قدّمه العربي، للحضارة الإنسانيّة، فالدين جاء في كتاب عربي مبين، واللّغة أضحت أساس الجدل المذهبي، والكلامي والفقهي، بما تتوفّر فيها من ألفاظ، وبما يتضمّن اللفظ العربي من فائضٍ في المعنى، وما يتميّز التركيب اللّغوي العربي من تنوّع، حيث وجد مع بداية تشكل دولة الإسلام بعد وفاة الرسول، وفي الخلافات السياسيّة والاجتماعيّة، أرضية صلبة في اللّغة، بمطاوعتها وانفتاحها، ما شكّل عطاء في البلاغة والفصاحة.
هذه اللّغة أوجبت على المسلمين خاصّة، ضرورة تعلّمها وفهم معانيها، والتعمّق في فقه أحكامها، لأنها رسالة دينيّة وإنسانيّة، وقضيه عقيدة وإيمان، لنشر الدفء والمحبة والأمان، لأنها لغة القرآن والسنّة النبويّة، التي تتمّ بها العبادات والموضوعات الدينيّة، اللغويّة والفنيّة والعلميّة، والتي أنزلت جميعها باللّغة الفصحى، غير ذي عوج لعلهم يتّقون، علمها واجب هام لقبول شهادة المتحاورين، لأنها وعاء كتابه الخالد، أوجب الله -الشارع الحكيم- تعلّمها، حتى يُفهم مقاصد الكتّاب والسنّة، وتُختزل الرسالات السابقة، بالمنهج الذي ارتضاه الله لخلقه إلى يوم الدين، يقول تعالى { َ وَمَا شَهِدۡنَاۤ إِلَّا بِمَا عَلِمۡنَا وَمَا كُنَّا لِلۡغَیۡبِ حَـٰفِظِینَ } ،هي تؤثّر في العقل والخُلق والدين، وتعدّ مصدر عزّ، ومقومًا أساسيًّا من مقوّمات الأمّة الإسلاميّة، التي حافظت على وجودها ،بمفرداتها وصيغها وتراكيبها الأسلوبيّة، وبقيت بمدلولاتها الفنيّة والأدبيّة، صالحة عبر العصور والقرون، في حين أنّ جميع اللّغات القديمة الأخرى، قد تلاشت وتقطّعت أواصرها، بتفكّكها اللّغوي والفكري، حيث انطوت على نفسها في لهجات عاميّة محليّة، لا تعرفها الأمة في قوّتها ووحدتها وصحتها، وزالت مع الأزمنة، واستُبدلت بلغات ولهجات أخرى، اندمج معظمها في حضارة واحدة بعد أن انصهرت في علاقات وصلات وروابط متجانسة، مجتمعيّة وثقافيّة، توحّدت بها أمم وشعوب وقبائل قديمة وحديثة، وأضحت وسيلة تفاهم وتواصل بين الناس، بأجناسهم المختلفة وانتماءاتهم المتنوّعة، لغة إنسانيّة، كانت وما زالت محافظة على تاريخها اللغوي واللساني، انتشرت في المنطقة والعالم، فعززّت قيمها، ورسّخت مفاهيمها، التي أثرت في نهوض العديد من الدول والأمم، وخاصه في الدول الأوروبيّة، التي سارع بعضها إلى تعلمها، والتّعرف إلى كلماتها وحروفها، التي امتازت بدقة الألفاظ، ووضوح المفردات والمعاني، بعد أن حفظت تراث الأمم السابقة وترجمت لغاتها الى عربيّتها، وما زاد عليها العرب والمسلمون من اختراعات وابتكارات في مختلف العلوم، في الطب والصيدلة والزراعة والعمارة والموسيقى، وبالأخص ترجمة كتابات الفيلسوف الإغريقي أرسطو ٣٨٤ ق.م ٣٢٢ق.م، ونقلها عن طريق صقلية والاندلس وطليطلة، ما يمكن القول إنّ النهضة الأوروبيّة ظهرت امتدادًا للنهضة العربيّة الإسلاميّة، وإنّ الفكر العربي الأسلامي، وثقافته العربيّة الإسلاميّة سلسلة متّصلة الحلقات، امتدّت من الحضارة القديمة، من مصريّة وأشوريّة وبابلية وصينيّة، إلى حضارة الاغريق اليونانيّة، والإسكندريّة إلى العصور الإسلاميّة، التي تأثّر علماؤها بمن سبقهم، وأثّروا هم بدورهم فيمنْ لحقهم من علماء النهضة الأوروبيّة، الذين قرأوا أعمال العرب المسلمين، في كتبهم، المترجمة الى اللاتينيّة واللغات الأوروبيّة، من أمثال ابن سينا ٩٨٠-١٠٣٧م والبيروني٩٧٣ - ١٠٤٨ م، اللذين كانا من أبرز العلماء البارعين في عصر التنوير الأوروبي.
هذا ما جعل اللّغة العربيّة تتبوّأ مركز الصدارة في العالم، في شتى فنون المعرفة والعلم وفي تجلّياتها الإبداعيّة والعلميّة، فقدّمت للبشريّة عامة آدابًا وعلومًا. وقد وفّق الثعالبي١٣٨٤ -١٤٧١ م في وصفه للعربيّة بأنها خير اللغات والألسنة، وأنها أداة العلم وإحراز الفضائل واحتواء المروءة، وسائر أنواع المناقب٨، ليست مادة لفظيّة وأصواتًا مسموعة فحسب، بل هي جامعة فكريّة وعلميّة، تحمل في مضمونها فعاليات النشاط الإنساني والحضاري، ما دفع الجاحظ٧٧٥-٨٦٨ م إلى القول: منْ لا يعرف العربيّة جهل تأويل الكتّاب والسنّة، ولم يرض عن التأويلات المغلوطة، التي استخدمها أصحاب الملل الضالة، من الطاعنين باللّغة والقرآن، فكشف ترّهاتهم وفضح دوافعهم وحقدهم على العرب والاسلام.