تتصاعد نذر الحرب العالمية الشاملة. فمع تزايد حدّة التنافس بين القوى العظمى، والتدخلات الخارجية في الصراعات الإقليمية، وتسارع التطورات التكنولوجية في مجال الأسلحة النووية والبيولوجية، وانتشار التطرف والإرهاب، تعود أصوات طبول الحرب تدق من جديد. وتشهد الساحة الدولية تحركات دراماتيكية غير مسبوقة. هذه التحولات المفاجئة في السياسات العسكرية والخارجية تبعث على القلق وتضع العالم على شفا حرب عالمية وشيكة.
بداية، بعد عقود من الهدوء النسبي، عاد الحديث عن التجنيد الإجباري ليخطف الأنظار مجددًا.
ومن أوائل الدول التي أعادت تطبيق التجنيد الإجباري، هي دول البلطيق، وذلك ردًا على التهديدات الروسية المتزايدة. كما شرعت دول مثل السويد والدنمارك تعيدان النظر في هذا القرار، مدفوعتين بمخاوف أمنية متزايدة، وبدأت كل من اليابان وفرنسا، ورغم عدم اتخاذهما أي قرارات رسمية حتى الآن، بمناقشة قضية التجنيد الإجباري، بعد ان كان هذا الملف مغلقًا تماما لمدة سنوات. ولجأت كل من ألمانيا وكوريا الجنوبية إلى تحسين ظروف الخدمة العسكرية وتقديم حوافز مادية ومعنوية لجذب الشباب للالتحاق بالجيش، بينما زوّد الرئيس بوتين عدد المجندين في الجيش الروسي ب 180 آلف جندي، جاعلا بالتالي الجيش الروسي ثاني أكبر جيش في العالم بعد الجيش الصيني. وعمدت اسرائيل الى تمديد فترة الخدمة العسكرية في محاولة منها لتعزيز جاهزيتها العسكرية في ظل التوترات المتزايدة في الشرق الأوسط.
عربياً، بدأت العديد من الدول في إعادة النظر في سياساتها العسكرية واللجوء إلى االتجنيد الإجباري. فبعد الغزو العراقي للكويت، ثم ثورات الربيع العربي بداية من 2011، والاضطرابات الكثيره اللاحقة في اليمن وسوريا وليبيا، أدركت دول مثل الكويت وقطر والامارات أهمية بناء جيوش قوية لحماية أمنها، مما دفعها إلى تبني نظام التجنيد الإجباري. وعاد المغرب إلى تطبيق التجنيد الإجباري في عام 2019، كما بدأ العراق يدرس جديّا إمكانية إعادة تطبيق التجنيد الإجباري لمواجهة التهديدات المتصاعدة، واعتمدت دولة مصر نهجًا مختلطًا، جمعت فيه بين التجنيد الإجباري والتجنيد الطوعي..
وترى العديد من الدول التجنيد الإجباري ضرورة حتمية، وذلك لأن الخدمة العسكرية الإلزامية تساهم في تعزيز الروح الوطنية والشعور بالانتماء لدى الشباب، وتغرس فيهم قيم الانضباط والمسؤولية.
ومع هذا فقد كانت الولايات المتحدة من أكبر المعارضين لنظام التجنيد الإجباري لأسباب عديدة. منها أنها ترى أن التجنيد الاجباري هو انتهاك لحقوق الإنسان الأساسية، وهويتعارض مع مبادئ الحرية الفردية وحق الاختيار الشخصي. وتعتبر الولايات المتّحدة أنّ التجنيد الإجباري مكلف، حيث يتطلب تدريب أعداد كبيرة من الجنود الذين قد يخدمون لفترة قصيرة ثم يتركون الخدمة العسكرية؛ ما يعني أن هذا الاستثمار الضخم هو مضيعة للوقت لأنّه لا يضمن الحصول على جيش محترف ذي كفاءة عالية. إضافة الى ذلك، فإنّ الجنود المجندين قسراً يكونون أقل حماسًا وتفانيًا في عملهم، مما يؤثر سلبًا على كفاءتهم القتالية. ويؤمن الاقتصاديون، مثل ميلتون فريدمان، بأن الشباب يمكن أن يكونوا أكثر إنتاجية في القطاع المدني. فبدلاً من إجبارهم على الخدمة العسكرية، يمكنهم العمل والمساهمة في الاقتصاد، مما يولد ضرائب يمكن استخدامها لتمويل الجيش من المتطوعين المحترفين.
ولكن في ظل الفوضى التي تضرب العالم، وتزايد المخاوف الأمنية والتهديدات الإقليمية والإرهابية، ونقص المتطوعين في العديد من الجيوش، بدأت كل الدول تعيد النظر في سياساتها العسكرية، و سعت إلى اتخاذ إجراءات احترازية لضمان أمنها القومي، وتعزيز قدراتها العسكرية.
يؤكد تقرير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام على الاتجاه المتصاعد للإنفاق العسكري على مستوى العالم، اذ تجاوز الإنفاق العالمي على التسلح في عام 2023 عتبة 2 تريليون دولار، وهو رقم قياسي لم يسبق له مثيل منذ نهاية الحرب الباردة.
كما بدأنا نشهد في السنوات الأخيرة تشكّل تحالفات عسكريّة جديدة، سواء كانت رسمية مثل انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو، أو غير رسمية مثل التقارب العسكري بين إيران وروسيا والصين.
كل ذلك إنما يدل أن الدول بدأت تستعد للحرب بالجنود والسلاح والتحالفات، وان هذا الاستنفار العسكري سببه الأساسي إدراك الجميع أننا بتنا نعيش في عالم مضطرب. ومظاهر الاضطراب كثيرة وواضحة، وأهمها:
1- ارتفاع عدد الحروب اذ تؤكد تقارير مؤشر السلام العالمي على هذه الحقيقة، حيث تشير إلى وجود 56 حربًا نشطة حاليًا، مما يعني أن 92 دولة حول العالم متورطة في صراعات مسلحة بشكل مباشر أو غير مباشر، اضافة الى وجود 4 صراعات متصاعدة او نقاط اشتعال قائمة مثل الصراع في بحر الصين الجنوبي، والحرب في أوكرانيا، والتوترات المتصاعدة في شبه الجزيرة الكورية والشرق الأوسط.
2- إلغاء أو تعليق العديد من المعاهدات الدولية التي كانت تضمن الاستقرار الاستراتيجي والحد من خطر اندلاع حروب نووية أو تقليدية واسعة النطاق. فقد أدى انسحاب روسيا من معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا إلى زيادة المخاوف بشأن سباق تسلح جديد في القارة الأوروبية، خاصةً مع تزايد التوترات بين روسيا وحلف الناتو. ويمثل تعليق العمل بمعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية تهديدًا مباشرًا للنظام العالمي غير النووي، حيث يفتح الباب أمام تجديد التجارب النووية وتصعيد التنافس النووي بين الدول. كما يؤدي تجميد معاهدة ستارت الجديدة التي وقعت في عام 2011 لمراقبة الأسلحة النووية بين واشنطن وموسكو، إلى تقويض الجهود المبذولة للحد من الأسلحة النووية الاستراتيجية، مما يزيد من خطر حدوث صراع نووي عرضي أو مقصود.
3-الاستقطاب الدولي إذ يشهد العالم انقساما متزايدًا إلى معسكرين متنافسين، يضم المعسكر الأوّل الولايات المتحدة وحوالي 40 دولة أخرى، ويشترك أعضاؤه في قيم ديمقراطية مشتركة وتعاون عسكري وثيق؛ بينما يضم معسكر المعارضين للولايات المتحدة أو ” المارقين” دولًا مثل روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية وفنزويلا، ويشترك أعضاؤه في معارضتهم للهيمنة الأمريكية؛ مما يزيد من حدة التوترات ويجعل من الصعب التوصل إلى حلول دبلوماسية للأزمات.
4-التوسع الهائل في العقوبات، اذ باتت العقوبات الاقتصادية سلاحًا استراتيجيًا تستخدمه الدول لإضعاف اقتصادات خصومها وتغيير سلوكها السياسي. إلّا أن العقوبات الاقتصادية قد تؤدي إلى نتائج عكسية وتزيد من حدة التوترات، كما حدث في حالة ألمانيا واليابان قبل الحرب العالمية الثانية.
5- الحروب التجارية والتحول من الأوفشور إلى الفراندشورينج:، فمع تصاعد التوترات التجارية، بدأت الشركات التي كانت تميل في السابق إلى نقل إنتاجها إلى دول أخرى ذات تكاليف إنتاج أقل (الأوفشور)، بغض النظر عن الموقع الجغرافي أو العلاقات السياسية، الى إعادة النظر في استراتيجياتها، ونقل إنتاجها إلى دول صديقة لها (الفرندشورينج) أو إلى داخل حدودها الوطنية. تسعى الولايات المتحدة مثلا إلى سحب استثماراتها من دول كالصين وروسيا وإعادة توطين صناعة الشرائح الذكية داخل أراضيها أو في دول حليفة؛ بينما تعمل الصين على زيادة إنتاجها المحلي للطاقة لتقليل اعتمادها على الاستيراد.
6-التصريحات الهستيرية لكبار المسؤولين والتقارير الرسمية التي تحذر من حرب عالميه ثالثة، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، تصريح قائد الجيش البريطاني الذي ينصح فيه مواطني المملكة المتحدة بالاستعداد لحرب عالمية تتطلب التعبئة العامة، وتصريحات كل من وزيري الدفاع الالماني والدنماركي اللذين حذّرا أن بوتين قد يهاجم حلف شمال الاطلسي في أقل من عقد من الزمن، وتصريح رئيس اللجنة العسكرية لرؤساء اركان جيش حلف النيتو الذي طلب من الجميع أن يكونوا في حالة تا هب قصوى للحرب ، اضافة الى تقرير لجنة استراتيجية الدفاع الوطني في الولايات المتحدة ( ايلول 2024)، الذي يصدر عن لجنة مكونة من ثمانية خبراء يطّلعون على المعلومات العامة وال المعلومات السرية ، والذي جاء فيه ان الولايات المتحده تواجه اخطر التهديدات واكثرها تحديا منذ عام 1945، وأن شراكة الصين وروسيا التي لا حدود لها والتي تشكلت في شباط 2022 ، قبل ايام فقط من غزو روسيا لاوكرانيا، والتي تعمقت وتوسعت لتشمل شراكة عسكرية واقتصادية مع ايران وكوريا الشمالية، تخلق اليوم خطرا كبيرا بأن يتحول الصراع الى حرب متعددة المسارح…
يبدو أن البشرية لم تستفد من دروس التاريخ. ففشل عصبة الأمم في منع الحرب العالمية الثانية كان بمثابة جرس إنذار، إلا أن الأمم المتحدة تكرّر نفس السيناريو. فهي اليوم، وعلى الرغم من ادعاءاتها بالحفاظ على السلم والأمن الدوليين، تبدو عاجزة عن وقف الحروب في فلسطين والسودان وأوكرانيا وغيرها من الدول، تمامًا كما عجزت سابقتها عن التحرك عندما غزت اليابان منطقه منشوريا الصينية في سنة 1932، وحين غزت ايطاليا اثيوبيا في سنة 1935؛ مما أدى الى اندلاع الحرب العالمية الثانية.
في الختام، إننا نقف على حافة هاوية، وكل يوم يقربنا من حرب عالمية جديدة. فإذا كان السعي وراء القوة والهيمنة هو المحرك الأساسي للأحداث العالمية، فإننا محكومون على تكرار دورة الصراع والتدمير. وفي خضم الأحداث العاصفة التي تهز أركان العالم، يبرز سؤال ملح: هل المشكلة تكمن في النظام الدولي ذاته، أم أنها تكمن في عجزنا عن تطبيق القيم الإنسانية؟
وهل أصبحنا مجرد بيادق في لعبة جيوسياسية كبيرة، أم أننا ما زلنا قادرين على بناء عالم أكثر عدلاً ومساواة؟
إن القدرة على تجاوز التحديات الراهنة وبناء مستقبل أفضل تتطلب منا أن نكون أكثر وعياً بدورنا في هذا العالم، وأن نعمل جاهدين لبناء مجتمعات أكثر عدلاً ومساواة واستدامة، علّنا بدلك نترك عالما توجّهه بوصلة أخلاقية موحّدة، ويكون فيه احترام الإنسان هو الأساس…
الكاتبة: إيمان درنيقة الكمالي
أستاذة جامعيّة- باحثة سياسيّة
موقع سفير الشمال الإلكتروني