يعود لبنان بوضوح إلى ساحة تجاذب "ميداني" إيراني- أميركي. ولكن هذه المرّة على وقع حرب طاحنة غايتها تغيير الوقائع السياسية والميدانية. لطالما ترسّخت في السنوات الماضية معادلة "التقاطع الإيراني الأميركي" فكانت تتعرقل الاستحقاقات السياسية عند التعارض بين الجانبين، وتتسهل لحظة التلاقي أو التقارب. قبيل اندلاع الحرب العنيفة، كان الرهان على حصول شبه تفاهم ينتج تسوية في لبنان، لكن الحرب غيّرت كل القواعد. كسرت إسرائيل ميزان التقاطع الإيراني الأميركي، فعاد التجاذب أو التنافس بقوة، بينما تسعى إيران إلى إعادة تثبيت حضورها والاحتفاظ بنفوذها بعد الكثير من الضربات التي تلقاها حزب الله.
الجبهة الأخطر على إسرائيل
ما تريده إسرائيل هو كسر كل المعادلات التي تكرّست سابقاً، ومع اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، وطي صفحة مرحلة لفتح مرحلة جديدة غير واضحة المعالم حتى الآن، في ظل تضارب الرؤى والمشاريع داخل لبنان وخارجه. في كل الأحوال، فإن الكلمة تبقى للميدان، إذ لا يمكن حسم أي وجهة سياسية قبل انتهاء المعارك العسكرية. ولا يمكن إغفال معادلة أن جنوب لبنان هو الجبهة الأخطر على إسرائيل لحسابات متعددة؛ أولاً المدى المفتوح، وثانياً موقع هذه الجبهة على تخوم الأراضي المحتلة، وثالثاً ما يمتلكه حزب الله من أسلحة قادرة على تهديد كل إسرائيل، وفق معادلة كان قد رفعها نصرالله نفسه سابقاً "من كريات إلى إيلات". تل أبيب في المقابل لا تريد الخروج من المعركة إلا وتكون قد غيّرت المعادلة كلها وأفقدت حزب الله كل أوراق قوته، وهي تقول للعالم إنها لن ترتضي بعد اليوم وجود أي قوة تهدد أمنها. لذلك فإن المعركة المفتوحة حالياً والتي ستكون طويلة، من شأنها أن تكرس واقعاً جديداً يستمر لسنوات طويلة.
تلقى إسرائيل دعماً أميركياً مطلقاً لما تريد تحقيقه. وهي تحاول كسر كل التوازنات وخصوصاً الإيرانية، من خلال ضرب حلفاء إيران ونفوذها في المنطقة. طهران تجد نفسها مهددة بخسارة الكثير من الدور والنفوذ والحضور بعد الضربات المتوالية التي توجهها تل أبيب للحزب. كما أن إيران تستشعر محاولة إسرائيلية لتكرار ما جرى في غزة في لبنان، وإفقادها التأثير على ساحتين، من دون إغفال احتمال توسيع هذا المسار ليطال سوريا والعراق لاحقاً أو إيران نفسها. لذلك تكثف طهران من الحضور في لبنان، وتصرّ على مواصلة القتال. وهي الرسالة الثانية التي يوصلها مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي إلى المسؤولين اللبنانيين، ولا سيما الرئيس نبيه برّي وحزب الله. تكثيف الحضور الإيراني
وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه بعيد اغتيال أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، تكثّفت الزيارات الإيرانية إلى لبنان، والتي بدأت مع زيارة أجراها مسؤول العلاقات الدولية في مكتب مرشد الجمهورية الإسلامية، الشيخ محسن قمي، بعدها حط وزير الخارجية عباس عراقجي في بيروت، وبعدها جاءت زيارة الممثل الخاص لوزير خارجيتها لشؤون غرب آسيا محمد رضا رؤوف شيباني، والذي تم تعيينه كقائم بأعمال السفارة الإيرانية، علماً أنه كان سفيراً سابقاً في لبنان. وأخيراً جاءت زيارة رئيس مجلس الشورى محمد باقر قاليباف، الذي قال إنه ينقل رسالة من الخامنئي. هذا الكدّ الإيراني في الحضور له أكثر من هدف. أولاً، تثبيت الحضور والقدرة على المجيء إلى لبنان. ثانياً، إشراف مباشر على الوضع اللبناني وعلى وضع حزب الله بالتحديد، لعدم افتقاد أي قدرة على منظومة القيادة والسيطرة، لا سيما أن ذلك يأتي في سياق تسريبات كثيرة تتحدث عن دخول إيراني مباشر على خط اتخاذ القرار وإدارة العمليات العسكرية لدى الحزب. هنا لا بد من استذكار سلسلة نقاط، أولاً عند اغتيال محمد رضا زاهدي في القنصلية الإيرانية في دمشق، تبيّن أنه كان عضواً في مجلس شورى حزب الله، كما أن اغتيالات عديدة حصلت لمسؤولين في الحزب تبيّن فيها وجود مسؤولين إيرانيين، ولا سيما العميد نيلفروشان الذي كان في الاجتماع إلى جانب السيد نصرالله لدى اغتياله.
بين إيران وأميركاتصرّ إيران من خلال هذه الزيارات على عدم ترك أي مجال لحصول تضعضع في صفوف حلفائها، ولعدم ترك المجال أمام أي فراغ يمكن أن ينجم بسبب ما يتعرض له الحزب. كذلك تريد إيران أن تقول إنها صاحبة الميدان والجبهة المتقدمة. وهي تسعى إلى تحسين كل شروطها بالارتكاز على كل الجبهات القادرة على التحرّك فيها، وخصوصاً الجبهة اللبنانية التي تعتبر متقدّمة، ووصلة وصل تؤدي إلى ساحات متعددة. لذا لا يمكنها أن تتخلى عنها أو تتراجع فيها. أيضاً هناك مشكلة برزت لدى البيئة الحاضنة لحزب الله، والتي تعتبر أنها دفعت أثماناً كبيرة فيما إيران كانت لا تزال تصر على التفاوض مع أميركا وتقديم التنازلات. ولذلك ما تقوم به طهران هو محاولة لترميم وترتيب العلاقة مع هذه البيئة. يأتي الحضور الإيراني عسكرياً وسياسياً، في مقابل الحضور الأميركي من خلال اتصالات ومواقف متعددة، يشير فيها الأميركيون إلى ضرورة خروج لبنان من هيمنة وتأثير حزب الله أو القوى الإقليمية التي تدعمه، ومحاولة تغيير موازين القوى السياسية. حضور قاليباف ليس بالأمر البسيط أو التفصيلي، فهو الذي كان مرشحاً لرئاسة الجمهورية عن تيار المحافظين في مواجهة الرئيس مسعود بزشكيان، الذي أصر على التقارب مع الأميركيين. وقاليباف هو أحد أبرز قيادات الحرس الثوري. مجيئه إلى بيروت إشارة تشدد وتصعيد وتحضيراً لمرحلة ستشهد الكثير من الضغط والتصعيد والمواجهات.