دخل لبنان الحرب المفتوحة. توقفت أو تعطّلت كل آليات التواصل السياسي والديبلوماسي للوصول إلى وقف لإطلاق النار. يعلم اللبنانيون أن الطرف الوحيد المعني بفرض إطلاق النار هو الولايات المتحدة الأميركية، وهي غائبة عن السمع منذ اغتيال أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله. بعض الرسائل والمواقف التي ترد من واشنطن تنقل أن ما كان معروضاً على صعيد الحل الديبلوماسي قد انتهى، والآن هناك وقائع جديدة يتم فرضها على الأرض لا بد من انتظارها. المحاولة الوحيدة التي قدّمها الأميركيون للبنانيين هي عرض سياسي بالاستسلام، وخصوصاً من قبل حزب الله عسكرياً، إلى جانب استسلام سياسي كامل يسلّم بكل الشروط الدولية، بما فيها انتخاب رئيس للجمهورية يتم فرضه، لا التوافق عليه. رفض بعض الساسة اللبنانيين المحاولة وعملوا على إجهاضها، فيما الحرب متواصلة.
منذ أيام يحاول الإسرائيليون التوّغل برياً في عدد من قرى الجنوب. من غير المعروف حتى الآن إذا كان هذا التوغل هو العملية الفعلية للاجتياح البرّي، أم انها عمليات استطلاع وجس نبض وتلويح بالدخول، لاستخدام التهديد بالعملية البرية كعنصر ضاغط على القوى السياسية، لإجبارها على تقديم التنازلات المطلوبة، وبحال لم تستجب مجدداً فإن الآليات الإسرائيلية المحتشدة بشكل كبير يفوق التحشيدات التي استقدمت في حرب تموز 2006 ستتحرك باتجاه الداخل اللبناني. بعض عمليات التوغل تحصل من ثلاثة محاور عبر فرق استطلاعية وهندسية، ولكن لم يبدأ الهجوم الفعلي من المحاور الثلاثة بشكل متزامن. وفي حال حصل ذلك، فسيترافق مع كثافة نارية هائلة، كمحاولة من قبل جيش الاحتلال لإرباك دفاعات الحزب. الحزام الأمني
يحاول الإسرائيليون والأميركيون أن يضعوا اللبنانيين أمام خيار من إثنين. إما حصول الاجتياح البري الموسّع، مع استكمال الإسرائيليين لعمليات التدمير والتهجير والتجزير والاغتيال لإنشاء حزام أمني أو احتلال مناطق واسعة، ولتحقيق ما يسمّونه تفكيك بنية حزب الله العسكرية وبناه التحتية. أو أن يعلن اللبنانيون الاستسلام والتسليم بالشروط الدولية المفروضة، والتي تعني تجاوزاً للقرار 1701 وعودة إلى ما يشبه القرار 1559. يسوّق الإسرائيليون دولياً لفكرة أن لا قوات اليونيفيل ولا الجيش اللبناني لديهما القدرة على ضبط الوضع في جنوب نهر الليطاني، وأن إسرائيل لا تثق بأي جهة لضمان أمنها، وأن من يضمن أمن إسرائيل هو جيش إسرائيل. انطلاقاً من هنا يصرّ الإسرائيليون على التمسك بشعار "إنشاء الحزام الأمني". حرب قابلة للتوسّع
هناك فوارق كثيرة بين هذه الحرب وحرب تموز 2006. في تلك الفترة، كانت الإدارة الأميركية جمهورية، ومنحت إسرائيل وقتاً لتنفيذ العملية، ولكن منذ الأيام الأولى لاندلاع الحرب استمر التواصل وتقديم العروض والتفاوض. وكان معلوماً أن العملية مقيّدة بمهلة زمنية. اليوم يختلف الوضع تماماً، الأميركيون غائبون عن السمع، لا عروض إلا استسلام. هناك انشغال أميركي بالانتخابات التي يستفيد منها نتنياهو، وهناك "صهيونية واضحة" لدى إدارة جو بايدن وكل فريق إدارته، وقد عبّروا عن ذلك مراراً، من استعادة قوله القديم بأنه لو لم يكن هناك إسرائيل لوجب علينا اختراعها، إلى ما يُنسب له من أقوال بأنها "البقعة التي أزهرت الصحارى"، ولا ينفصل ذلك عن زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى تل أبيب بعيد عملية طوفان الأقصى، والتي قال خلالها إنه يزور إسرائيل كيهودي. يلتقي ذلك مع الكلام المتكرر لبنيامين نتنياهو حول تغيير الشرق الأوسط. وهي استعادة لكلمة أطلقتها وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس في حرب تموز 2006 وبعدها عملت على الاعتذار عنها وسحبها وعدم استخدامها، قائلة في كتاب مذكراتها إن ما فهم من مقصدها كان خطأ. اليوم لا يخطئ نتنياهو في ما يقول، ويعتبر نفسه أنه قادر على تحقيق ما يريد. ولذلك فمشروع حربه بدأ في غزة ولن يتوقف عند حدود لبنان، بل قابل للتوسع نحو سوريا، العراق وإيران نفسها. رئيس بشروط دولية
في العام 2006 نفذ حزب الله عملية أسر الجنديين الإسرائيليين للانقلاب على القرار 1559، وتغيير موازين القوى. وهو ما حصل من خلال إنتاج القرار 1701. اليوم تنقلب الآية، من خلال إصرار الإسرائيليين على مواصلة الحرب لتغيير الوقائع العسكرية وإعادة فرض القرار 1559 بالنار، مع تغيير موازين القوى السياسية في لبنان. وهو ما برزت مؤشراته في الأيام الماضية من خلال تسليم دفتر شروط يتعلّق بانتخاب رئيس وفق الضغوط الدولية. وعلى هذا الأساس، تسارعت وتيرة الاتصالات من بعض الدول التي نقلت رسائل حول وجوب إعلان لبنان وقفاً لإطلاق النار والاستعداد للالتزام بالقرار 1701 وتطبيقه كاملاً، مع الاستعداد لانتخاب رئيس للجمهورية وإعادة تشكيل السلطة. تجاوب لبنان مع هذا المطلب، وتم التعبير عن الموقف في كلام رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بعد زيارته لرئيس مجلس النواب نبيه برّي. في الموازاة، كانت الضغوط تتزايد لأجل فرض انتخاب الرئيس على قاعدة الرضوخ لموازين القوى العسكرية. وهو ما رفضه برّي كما حزب الله، على اعتبار أنه لا يمكن القبول بانتخاب رئيس تحت الضغط العسكري أو في تكرار لتجربة العام 1982. فتحركت الاتصالات بين قوى مختلفة، ولا سيما بين برّي ووليد جنبلاط في سبيل تقديم طرح انتخاب رئيس توافقي لا يشكّل تحدياً لأحد، وهنا لم يكن المقصود سليمان فرنجية فقط، بل أيضاً المرشح الآخر الذي ضغط في سبيله الأميركيون وغيرهم، والمقصود هنا قائد الجيش جوزاف عون. فرملة التسوية الداخلية
استشعر الإيرانيون كل هذا الضغط السياسي والميداني. خصوصاً بعد بروز مواقف عديدة حول فصل جبهة لبنان عن جبهة غزّة. فكانت زيارة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في غاية الوضوح بأهدافها. أولاً، أنه لا يمكن لأحد أن يعتبر أن إيران تخلّت عن حزب الله، ولا يمكن لأي طرف أن يرث دور الحزب، وأن الحزب لا يزال قادراً على مواصلة القتال واتخاذ القرارات. ما يعني أن الزيارة كانت في إطار تصويب التوجهات، على الرغم من أن مواقف نواب في حزب الله عبرّوا عن أن الأولوية لوقف إطلاق النار في لبنان، بينما نواب آخرون تمسكوا بمبدأ وقف إطلاق النار في غزة ولبنان معاً.
بفعل هذه الوقائع، تفرملت المحاولات السياسية للوصول إلى تسوية داخلية، كما توقفت كل الوساطات الدولية أو الديبلوماسية، خصوصاً أن الطرف الأكثر قدرة على التأثير في الوصول إلى وقف لإطلاق النار هو الولايات المتحدة الأميركية، وهي لا تزال غائبة عن القيام بأي مسعى جدّي. بناء عليه، فإن الكلام للميدان ولمواصلة العمليات العسكرية التي يوسعها الإسرائيليون ويكثفونها، بينما بدأ حزب الله بتوسيع نطاق قصفه واستهدافاته إلى جنوب حيفا، كما يؤكد أنه لا يزال قوياً في الميدان، وقادراً على تعديل ميزان القوى في الحرب البرّية. هي حرب ستطول، والتي ستكون صراعاً بين نموذج الـ1982 و2006، وبين القرارين 1559 و1701.