مشهدان يتقاطعان في المدى الزمني، ويختلفان في قراءة مؤشرات الهزيمة والنصر، وكلاهما يستحضران الحدث النازف على حدّ الرصاص، وفي كليهما يختلط الدم الفلسطيني بالدم اللبناني على مذبح القضية.
الأول يستحضر ذكرى طوفان الموت قبل 42 عاماً في مخيمي صبرا وشاتيلا القابعين بين ضفتي العاصمة بيروت وضاحيتها الجنوبية، والذي حصد آلاف الضحايا والجرحى من المدنيين العزّل قتلاً وذبحاً واغتصاباً على يد جنود الاحتلال وميليشيا الكتائب اللبنانية.
أما المشهد الثاني فيكتب تاريخ نصر “طوفان الأقصى” الذي انطلق من قطاع غزة ليجتاح مواقع العدو ومستوطناته ومرتزقته في قلب فلسطين المحتلة، وتسانده في ذلك جبهة إسناد تمتد من لبنان إلى سوريا والعراق فاليمن وإيران، لتسقط “إسرائيل” للمرة الأولى منذ تاريخ إنشائها في أزمة وجودية تضيق معها الخيارات ما بين إعلان الهزيمة أو الإمعان في الغرق بمستنقع الحرب ومواجهة خطر الزوال.
إنها معادلة الشرق الأوسط الجديد، ولكنها هذه المرة ليست مصاغة بحروف أمريكية وإسرائيلية، بل وضعتها جبهة المقاومة وفق شروط ومواصفات خاصة توحّدها استراتيجية شاملة متعدّدة الأهداف والمآلات، وأهمها:
– أنها جبهة تجمع أطيافاً من الانتماءات العربية والإسلامية ولا تقف عند حدود التجاور الجغرافي أو اللغة والعرق، وتتّحد مع فلسطين باعتبارها القضية المركزية للحق التاريخي والإنساني.
– أنها جبهة تجاوزت عقدة الهزيمة وكسرت حواجز الخوف الواهم من إمكان الانتصار، وتقف اليوم أمام أعتى وأوسع تحالف لقوى الهيمنة في العالم كله، وأثبتت القدرة على الفعل والمبادرة.
– أنها جبهة وعت مكامن الخطر المزروع في جسد الأمّة الجامعة للعرب والمسلمين، فأسقطت الخلافات الدينية والمذهبية وجمّدت التباينات الفكرية التي طالما ابتدعتها وغذّتها سياسات الغرب في الفتنة والتفرقة، واستغلتها لضرب أبناء البيت الواحد وإشعال الحروب بين الأخوة والجيران.
– أنها جبهة قرأت تجارب الأمم والشعوب، واستخلصت المحدّدات الرئيسية التي تجعلها قادرة على جمع طاقاتها في مختلف المجالات في مواجهة الاجتياح الغربي، والذي أمعن في استغلاله لمقدّرات الشعوب والأنظمة في المنطقة، ووجدت في التآلف والاتحاد ونبذ الخلاف الوسيلة الفضلى لإحداث الانعطافة الفاعلة في مسار التاريخ الانهزامي.
– أنها جبهة نجحت في رسم مسار التحرّك والاندماح في بوتقة الفعل دون الذهاب إلى الانصهار والذوبان، فحافظ كل محور على هويته الوطنية والقومية ومقوّماته الذاتية التي تكفل له الحراك الفعّال، وارتقى إلى مستوى المسؤولية الجامعة ضمن الإطار الواحد، فحققت هذه الجبهة الإنجاز وقلبت المعادلة، فأصبحت “إسرائيل” في موقع رد الفعل، ويجهد أصحاب المشروع الاستعماري لإيجاد التسويات التي تضمن بقاء هذا الكيان المؤقت دون الدخول في نفق الاضمحلال.
هذا العام تزامنت ذكرى مجازر صبرا وشاتيلا مع حلول أسبوع الوحدة الاسلامية لمناسبة ولادة الرسول الأكرم (ص) كمحطة لوحدة المسلمين، وقد يبدو أن لا رابط بين الأمرين من حيث الشكل، ولكن جوهر المسألة يوضح عمق الروابط بدءاً من تكريس وحدة المسلمين بمذاهبهم المختلفة، مروراً بالتركيز على القضية الفلسطينية التي هي محور القضايا العربية والإسلامية وصولاً إلى حاضرنا الراهن حيث تتجلّى الوحدة بأبهى صورها الدينية والسياسية والعسكرية وبأقوى تجلياتها الاستراتيجية من خلال جبهة المقاومة.
ولا نريد هنا أن نعدّد الانجازات التي حققتها هذه الجبهة فيكفي رصد المواقف الصادرة عن كبار المسؤولين في واشنطن وتل أبيب التي تنبّه من خطورة الاستمرار في الحرب على مصير إسرائيل ومستقبلها الوجودي، لندرك أن عامل الوحدة الذي تجسّده جبهة المقاومة قد نجح في تحويل التهديد إلى فرصة تاريخية من شأنها أن تخلط الأوراق، حيث لم يعد الشعار “لو رمى كل مسلم دلواً على إسرائيل لجرفتها السيول” ضرباً من المواقف المعنوية، بل تجسّد واقعاً حقيقياً يمتاز فيه العرب والمسلمون بالكفة الراجحة للنصر.
موقع سفير الشمال الإلكتروني