2024- 09 - 19   |   بحث في الموقع  
logo الانسانية في مكان آخر!.. رنا البايع logo جاء دور المقاومة!.. غسان ريفي logo لبنان فوضى معلومات ورعب بمواجهة "سلاح يوم القيامة" logo ما محرّك الحرب؟ القوة إذ تفرض نفسها؟..."الجندي شفيك" يُجيب logo تفجير لاسلكيات حزب الله "حرب جديدة".. ومجلس الأمن للانعقاد logo "قواعد الاشتباك" سقطت: حزب الله بين الفخ والكارثة logo “الحزب” ينعى شهيدا جديدا.. logo بوحبيب: نؤكد على دور المغتربين في هذه الظروف
في معنى رحيل الياس خوري
2024-09-17 01:25:37

كأننا برحيل الياس خوري، نطوي صفحة، نتلقى إيذاناً بنهاية مرحلة. والكلام هنا ليس عن روايات الياس. ليس عن النقد والتأليف المسرحي، ولا عن تكوين الجمعيات الثقافية والتيارات السياسية، ولا عن العمل بالصحافة والأكاديميا، بكل ما يشمله ذلك من رحيق، بكل الصوت الذي كانَهُ ابن الأشرفية المهجوس بالقضية الفلسطينية، وعناوين اليَسار في عصره الذهبي. بل عن "المثقف العضوي" نتحدث. تلك الموجة التي تلقفها العرب خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وكان الياس أحد أبرز رموزها، حتى كاد تنظير أنطونيو غرامشي لها يبدو مفصلاً على مقاسه.كأن وفاة الياس خوري، حقيقةً ومجازاً، استكمالاً لموت المثقف ذي الوظيفة الاجتماعية والسياسية. مُحترِف الاشتغال بالأفكار، والذي تنتجه كل طبقة من صفوفها بشكل عضوي ليخطّ ألفباء هيمنتها المشتهاة في وجه هيمنة السلطة، يموت بالمفرق، ويوشك نجمه على الأفول التام.كان الياس لا يزال مراهقاً عندما انضم إلى صفوف حركة "فتح"، وعشرينياً عندما اشتعلت التظاهرات الطلابية في باريس في أيار 1968 فألهمت شوارع العالم، وأيضاً عندما شرّع "اتفاق القاهرة" مقاومة الفلسطينيين من لبنان العام 1969 وبدت الأحلام أكبر من الواقع وأثقل وطأة. وكان ثلاثينياً يجوب أزقة الحرب الأهلية التي خالتها "الحركة الوطنية" ثورة تحررية مسلّحة لنُصرة المسحوقين سياسياً واجتماعياً، وقيادياً خمسينياً في "اليسار الديموقراطي" حينما نبتت أجنحة لـ14 آذار، ثم انكسرت. أما كامل عُمره فكان، أولاً وأخيراً، منصهراً في المسألة الفلسطينية.ردح من الوقت طويل... وبموازاة وفاة الياس، يحتضر تاريخ من الثقافة كسلاح، والسلاح كقصيدة وحكاية حميمة في سهرات النار.في زمن الياس خوري، كان البطل مزيجاً من مهارات ومواهب عديدة. متناقضات التحمت كالعشاق في صفو الليل. القتال، جنباً إلى جنب مع الشعر والرواية والأغنية. الصحافة صانعة الرأي العام، بجوار العمل السياسي المباشر الساعي إلى "تجنيد" الرأي العام، والمفترض أن يُسائلَه الصحافي بإسم الرأي العام. والتعبئة، يداً بيَد مع التفكيك، عبر تلاوين الفنون والبنادق والميكروفونات والمنشورات.ولأن هذا المشرق واظب على نخر نظريات الصراع الطبقي، جاعلاً فيه ثقوباً كثيرة تمنعه من تفسير كل شيء، وثابر على تمييع الطبقات الاجتماعية في جبّالات الجماعة والحزب والقبيلة والطائفة، حتى حرم نفسه رؤية فقراء الطوائف يتحدون في وجه مافياتها... كان الياس خوري نسخة مشرقية من مثقف غرامشي العضوي. جسّده على طريقته. فهو، بعضويته في طبقة بيروتية وسطى أتاحت له إمكاناتها، انتمى أيضاً وبعمق إلى اليسار ومنظمة التحرير الفلسطينية. كانت "مسيحيته" ثقافية، و"إسلامه" هوياتياً للنضال. قضيته ما بعد كولونيالية، فيما تدور يومياته، وعمله وأدبه، في فُلك حداثوي ليبرالي. هكذا فاض عن طبقته الاجتماعية وطائفته وقبيلته السياسية، وظل سيّالاً في ما بينها، ونطق بألسنتها كلها في آن واحد. كان ذلك زمنه، ورفاقه لبنانيون وسوريون وفلسطينيون ومصريون ويمنيّون وجزائريون ومغاربة. حالة، وتغرُب الآن خلف البحر، بحُلوها ومرّها.لا يصف المثقفون العضويون، الحياة الاجتماعية، وفقًا للقواعد العِلمية فحسب، يقول غرامشي، بل إنهم يعبّرون بلغة الثقافة عن المشاعر والتجارب التي لا تستطيع "الجماهير" التعبير عنها بنفسها. من واجبهم، في رأي الفيلسوف الماركسي، مخاطبة المبادئ الغامضة للحكمة الشعبية وفطرته،ا في مجالاتهم السياسية الخاصة، من أجل تمثيل الفئات المهمشة الذين سمّاهم "التابعين". وقد تعدد "التابعون" الذين حملهم الياس خوري وركض، كتب ونشر ونَظَّم طوال عقود.اليوم، أو بالأحرى منذ رحيل الياس الذي بدأ قبل وفاته بعديد من السنين، نعيش في عصر الناشط، السياسي، المثقف، الفنان... هكذا، كل على حدة. ما زال هناك من الأدب والفنون والتجمعات، ما يتبنّى قضية. وأحياناً، يجاهد في سبيلها. الجندر والبيئة ومناهضة احتلالات متنوعة. التكنولوجيا في حقبة "ما بعد الإنسان" إذ ترث "ما بعد الحداثة". والقضية الفلسطينية. والطوائف بمظلومياتها وبشاعاتها. لكنه صخب السوشال ميديا، والمواطن-المراسل، والمُستخدم – كل مستخدم – كصاحب رأي وقبضاي زاروب من زواريب مليونية لكل جدل. يقتل المثقف العضوي على مهل، خليّةً خليّة، ويفرز مكانه شخصية أخرى لم تتضح كل معالمها بعد.لا حنين في هذا النعي، ولا استدعاء لأمسٍ لا أحد متأكداً من أنه كان أجمل. لكنه، كما النعي بطبيعته، حزين. مثل فقدان الياس خوري.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2024
top