لم يتمكن المصلحون في الجزيرة العربية من استئصال الشر أو إحداث تغيير على السلوك الجاهلي الذي كان يفتخر بالحرب ويرفض السلم، حتى جاء مولد مُخّلص العرب والبشرية جمعاء مما هم فيه من ظلم وجور، ليملأ الأرجاء أمناً وسلاماً ورخاءً امتد لـ 63 عاماً فترة حياة النبي الخاتم.
ذلك عهد جديد تمكنت البشرية خلالها من فهم طبيعة الحياة والاستفادة من كل ما أنعم الله به على البشر من خيرات وطيبات كثيرة وأولها الأمن والسلام.
علَّم النبي الأميّ العالم بأسره معاني الحياة السعيدة، لم يدع لتقطيع الناس بالمناشير الحادة، ولم يقذف الناس بالحمم أو البراميل المتفجرة، ولم يُحارب العقول بالِحجر عليها دون أن تفكر.
لم يقدس الأشخاص مانحاً لكل البشر حق المساواة بالمقارنة مع النظير، وحق التفوق مع الأقران أمام الله تعالى بالتقوى.
كما منح المجتهدون نصيباً في الدنيا، لم يبن مملكةً من الظلم والجور واحتكار الحقائق، بل أطلق الحق في امتلاك المعرفة للناس جميعاً.
نشر العدالة ناصعةً بيضاء بين الناس، واستخدم الحب كسلاح يمتد به إلى قلوب المجرمين فينتزع منهم البغضاء والكراهية، ويُضيف إلى مجرى الحياة في دمائهم حب الأوطان والإنسان والحياة.
أخرج الظلم من النفوس وأذاب معالم المعركة بين الجنس البشري فلم يجد أحدهم أي سبب للقتال أو الكراهية أو العداء، بل تفوقوا في نشر التسامح والمحبة والأخوة.
تلك أمةٌ خلت لها أيام فاضلة امتدت لـ 63 عاماً، لا تُقارن تلك المدة بغيرها من أعوام الحياة كاملة، فذاك المولد فاض على الناس خيراً جعل النور ينطلق من مكان خروج طفل جديد سماه الله محمد، وأودع في كل حليب يتلقاه ذاك الطفل بركةً تمتد لينتفع منه سائر أطفال العالمين.
وجدت البشرية في ذلك المولد حياة جديدة تنتهي فيها الشرور والآثام وتبدأ في ترسيخ العدالة والمساوة بين الناس، فوجد أسود البشرة الحبشي تكاملاً مع أصفر الشعر وأبيض البشرة الفارسي صاحب العراقة والحضارة.
ربما لم يبق لنا كعرب سوى توحيد الله ولكننا في مناهج متعددة وكأننا أمة داخل طوفان لا يحكمنا نظام ولا تسيرنا حضارة إلا حركة الرياح وعنف الحادثة.
تعاون النبي مع كل ألوان البشر في طريق الرفعة والتقدم والنهضة والسمو لترسل الأمة الجديدة بعد عدة أعوام يدها بالسلام لكل الأمم، محققة الأمن لكل إنسان. توسعت آفاق المعرفة وامتدت معالم الحضارة وخاطبت الرسالة الجديدة كل الحضارات القائمة، والتي كان منها: المسيحية، واليهودية، والمجوسية وأهل الأوثان، داعياً الجميع إلى كلمة واحدة ترتقي بها البشرية وتتصالح بها مع أصل العقيدة القائمة على التوحيد.
لم يحمل النبي شعار (إما معنا أو علينا) بل مارس منح البشر حق الاقتناع بالدين الذي يريدون الذهاب إليه ومن واجب المسلمين دعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة.
تتابعت ذكريات ميلاد النبي على الأجيال اللاحقة متخذةً منها مناسبةً للاحتفال فتعج المساجد بالمحتفلين، وتتوحد خطب الجمعة عن تلك الذكرى الجميلة، ويبقى الواقع أسيراً لعقلية البشر المعزولة عن تعاليم السماء.
مولد نبوي مبارك كان كسحابة شتاء ماطرة احتاجت لها البشرية في زمن القحط الحضاري فتنزلت على الأرض وأسقت البشر وتركتهم ينتفعون بخيرها حتى عصرنا الحاضر، ومع ابتعاد موسم الشتاء الحضاري عن عالمنا فإنَّ موسم الجفاف قد بدأ وآن للناس أن يستسقوا الحضارة والنمو من التراث الذي تركته تلك الغيمة المباركة على الأرض المقدسة دون أن يتركوها وكأنها غيمة مارة لم تترك أثراً.
موقع سفير الشمال الإلكتروني