معادلة الخروج من الأزمة واضحة؛ انتخاب رئيس للجمهورية كمقدمة لوضع لبنان على سكة انتظام حياته السياسية ومؤسساته الدستورية، وتلمّس سبل مداواة الانهيار الذي بلغه بكلّ تداعياته المالية والاقتصادية والاجتماعية والمعيشية. وإخراج المواطن اللبناني من الإفقار الذي انحدر إليه، وإحياء الأمل لدى المودعين في استرداد جنى عمرهم من اللصوص الذين يتنعّمون بأموالهم ويبذرونها على ملذّاتهم من دون حسيب أو رقيب.
تلك المعادلة باعتراف القاصي والدّاني، تشكّل المدخل الى تعافي البلد، وتحصينه في ظروف هي الأصعب في تاريخه، ليس على مستوى الرئاسة وإعادة استيلاد الدولة فحسب، بل أمام الرياح الساخنة التي تتكوّن في جبهته الجنوبية. إلّا أنّها على الرغم من كل ذلك تبدو الخيار الأبعد والأضعف، مع معادلة الفوضى العارمة التي تسعى الى تثبيتها موبقات سياسية تعطّل الحياة في لبنان، وتحرّكها طموحات مدمّرة، وأحلام هدّامة، و”بدّاحة” مسعورة لا نظير لها، تلهث منذ بداية أزمة الرئاسة إلى إحباط كلّ محاولة أو جهد أو مبادرة ترمي الى فتح كوّة في جدار الانسداد الرئاسي. كما هو الحال مع مبادرة الحل الرئاسي التي طرحها الرئيس نبيه بري، وكما هو الحال أيضاً مع الجهود المتواصلة للجنة الخماسية.
مخاوف على الطائف
في هذا الواقع الموبوء، لا أمل ُيرجى من أيّ حراكات تتوخّى اصطياد خرق رئاسي من مستنقع التعطيل في المدى المنظور. ويندرج في سياقها الحراك المنتظر للجنة الخماسية، حيث يقول مصدر سياسي وسطي بارز رداً على سؤال لـ”الجمهورية”: “إن هذا الحراك إذا ما انطلق، ينبغي على كلّ الأطراف التفاعل معه بوصفه فرصة استثنائية في وضع استثنائي. وما أريد أن الفت إليه في هذا المجال، الى انّه كما لكل شيء حدود، فللحراكات أيضاً حدود”.
وذهب المصدر الوسطي عينه بعيداً في تشاؤمه، بقوله إنّه “لا يرى رئيساً للجمهورية في الأفق، طالما أنّ الواقع السياسي محكوم بهيستيريا التعطيل، وبرغبة الغلبة للآخرين. الحوار والتوافق مطلوبان، ورفضهما ليس له سوى معنى واحد وهو رفض انتخاب رئيس للجمهورية لا أكثر ولا أقل.”
على أنّ أخطر ما قاله هو “إنّ وضع المنطقة، ومن ضمنها لبنان، مقلق ومتحرّك والاحتمالات مفتوحة على كلّ شيء، ونتنياهو ليس مستبعداً ان يُقدم على مغامرات خطيرة، ولنعترف أنّ الأمور أكبر منّا جميعاً. وما أخشى منه ليس فقط تضييع الرئاسة وبقاء البلد بلا رئيس للجمهورية، بل من أن نصل إلى لحظة نجد فيها أنفسنا أمام تحوّلات غير محسوبة، وربما فوضى سياسية، وغير سياسية نترحم فيها على الطائف”.
سبت السفراء
إلى ذلك، تبقى الأنظار مشدودة الى اجتماع سفراء دول الخماسية المقرّر بعد غد السبت، وكلّ التقديرات والتحليلات السابقة تتفق على ضعف احتمال حصول خرق نوعي. فيما لا يبدو أحد كبار السياسيين متيقناً من حصول الاجتماع، حيث قال رداً على سؤال لـ”الجمهورية”: “قبل اجتماع الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان والمستشار الملكي نزار العلولا في الرياض، قيل لنا إنّهم سيضعوننا في أجواء الاجتماع لحظة انتهائه، وهو ما لم يحصل حتى الآن. وقيل لنا أيضاً إنّ السفراء سيجتمعون، ربما يوم السبت، وبناءً على اجتماعهم سيتقرّر ما إذا كان لودريان سيقوم بزيارة الى لبنان أم لا، ولكن حتى الآن لم نتبلغ أيّ تأكيدات رسميّة وجازمة لعقد هذا الاجتماع. لا أقول إنّ الاجتماع لن يُعقد، ولكن ليس في يدي ما يؤكّد انعقاده، في النهاية أنا مثلكم أنتظر يوم السبت”.
داخل الجدران
الى ذلك، وفي موازاة انشغال المنصّات السياسية والإعلامية في الأيام الأخيرة في رسم سيناريوهات وتقديرات حول ما جرى بحثه بين العلولا ولودريان في حضور السفير السعودي في الرياض، وغلبت فيها الطابع التشاؤمي، أكّدت مصادر ديبلوماسية عربية لـ”الجمهورية”، أنّ أجواء اجتماع الرياض كانت طيبة، وبالتالي كل ما نُشر وأشيع حوله لا سند حقيقياً له، وتنفيه سريّة البحث، وعدم تسرّبه إلى خارج جدران مقرّ اللقاء.
حراك السفيرين
الى ذلك، وعشية الاجتماع المفترض لسفراء الخماسية، لوحظ، أمس، تحرّك السفير القطري في لبنان سعود بن عبد الرحمن آل ثاني في اتجاه عين التينة، حيث التقى رئيس مجلس النواب نبيه بري، فيما تحرّك السفير المصري في لبنان علاء موسى في اتجاه رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، وكذلك في اتجاه معراب، حيث التقى رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع. واكّد في تصريحات له أنّه عكس “مرونة لدى جعجع يمكن البناء عليها”. وقال: “إنّ اللجنة لن تبدأ من جديد، بل ستعمل على ما تمّ إنجازه في السابق، ليلحق بما يمكن إنجازه في المستقبل. آملا أن تشهد الفترة المقبلة مزيداً من التحركات من قبل “اللجنة الخماسية” ومن قبل الجهات اللبنانية وصولًا إلى إحداث خرق مهمّ في الملف الرئاسي”.
ولفت السفير المصري الانتباه إلى أنّ الملف الرئاسي بات ملحّاً، مؤكّداً أنّ “وصولنا إلى انتخاب رئيس في لبنان لا يمكن أن يمرّ من دون حوار أو تشاور”.
التيار: اختبار
من جهة ثانية، تلوح في الأفق السياسي والمجلسي، نُذر ما يمكن اعتبارها مواجهة مباشرة بين “التيار الوطني الحرّ” ومجموعة النواب الذين أخرجهم من صفوفه. أما ساحتها فمجلس النواب، وحلبتها انتخابات اللجان النيابية الدائمة والأعضاء الخمسة في هيئة مكتب المجلس، التي يُفترض أن تجري مع بداية العقد العادي الثاني للمجلس، يوم الثلاثاء 22 تشرين الأول المقبل، باعتباره أول ثلاثاء بعد الخامس عشر من تشرين.
وتشكّل هذه الانتخابات، محطة اختبار بالغ الدقة والأهمية بالنسبة الى التيار، حيث ولاسيما انّ النواب الأربعة يشغلون منذ سنوات مواقع مهمّة في اللجان وهيئة المكتب. حيث يتولّى النائب ألان عون عضوية هيئة مكتب المجلس أميناً للسر، وعضوية لجنة المال والموازنة، وعضوية لجنة الدفاع الوطني، ويتولّى النائب ابراهيم كنعان رئاسة لجنة المال والموازنة، وعضوية لجنة الإدارة والعدل، ويتولّى النائب سيمون أبي رميا رئاسة لجنة الشباب والرياضة وعضوية لجنة البيئة ولجنة حقوق الإنسان. فيما النائب الرابع الياس بو صعب خارج حلبة المواجهة، باعتبار وضعه كنائب لرئيس مجلس النواب، خاضعاً لأحكام المادة 44 من الدستور، التي تجيز لمجلس لنواب ولمرّة واحدة وفي أول جلسة يعقدها بعد عامَین من انتخاب رئیسه ونائب رئیسه أن ینزع الثقة من رئیسه أو نائبه بأكثریة الثلثین.
معلومات “الجمهورية” من مصادر نيابية موثوقة تؤكّد انّ التيار سيخوض معركة انتخابات اللجان، لكي يستعيد المواقع المحسوبة من حصته في اللجان او هيئة المكتب، من النواب الذين أخرجهم، وإسنادها إلى نواب ما زالوا في صفوفه.
على أنّ الخريطة المجلسية بكتلها المتفرقة، تصعّب معركة التيار إلى الحدّ الأقصى، باعتبار انّه سيقاتل انتخابياً على ست جبهات في آن واحد، أي هيئة المكتب ولجان المال، والإدارة والشباب والرياضة والبيئة وحقوق الإنسان، وما يزيد من هذه الصعوبة هو أنّ التيار لا يستطيع وحده أن يحسم المعركة لمصلحته، أولاً لتراجع عدد أعضاء كتلته النيابية (تكتل لبنان القوي)، وثانياً لضعف مساحة تحالفاته التي ضيّقها وقوف التيار على خلاف شديد مع معظم الكتل النيابية، وتبعاً لذلك فإنّ إمكان جذبه لأصوات نيابية الى جانبه ليس أكيداً.
يعني ذلك، والكلام لمصادر نيابية، إنّ التيار أمام خيارين، إما صرف النظر عن المواجهة، والقبول بالصيغة الراهنة للجان وهيئة المكتب، ما يعني ترك القديم على قدمه، وفي ذلك إحراج له. وإمّا خوض المعركة والاحتكام إلى صندوقة الاقتراع، وفي ذلك مراهنة قد لا تكون رابحة. وكلا الخيارين تلوح في أفقهما الخسارة وليس الربح.
معارك جانبية
على أنّ المعركة الانتخابية لن تكون محصورة بالتيار وحده، بل ثمة معارك جانبية أخرى تلوح في الأفق، وخصوصاً أنّ بعض النواب المصنّفين تغييريين، سيعيدون الكرّة بالترشح لعضوية اللجان، أخفقوا في الفوز في عضويتها في دورتي الانتخاب السابقتين للجان.
وفي موازاتها، معركة ثانية يقول بعض النواب أنّ همساً نيابياً يفيد بأنّ “القوات اللبنانية” تحضّر لأن تخوضها للظفر برئاسة لجنة المال والموازنة وإسنادها الى النائب غادة أيوب، علماً أنه لم يصدر أي شيء علني عن “القوات” يؤكّد ذلك.
وعلى مقربة منها، معركة ثالثة يحضّر لها بعض النواب السنّة الذين يقدّمون أنفسهم كمحسوبين على تيار المستقبل، أو كأصدقاء له، لاستعادة لجنة التربية باعتبارها من حصة المستقبل تاريخياً، حيث تولّت رئاستها النائبة بهية الحريري لدورات متتالية منذ انتخاب أول مجلس نيابي بعد الطائف في العام 1992. وبعض النواب يردّدون اسم عضو “تكتل لبنان الجديد” النائب نبيل بدر لرئاستها بدلاً من عضو تكتل “التوافق الوطني” النائب حسن مراد.
وعلى مقربة منها، معركة رابعة، ساحتها لجنة الدفاع الوطني التي يرأسها النائب جهاد الصمد، حيث يتهامس النواب بنية أحد نواب تكتل “الاعتدال الوطني”، خوض معركة رئاسة اللجنة، ويتردّد في هذا السياق اسم عضو لجنة الدفاع النائب احمد الخير.
القديم على قدمه
إلى ذلك، أبلغت مصادر مجلسية مسؤولة الى “الجمهورية” قولها، من حق أي نائب الترشح لعضوية أي من اللجان أو لرئاسة أي من اللجان التي هو عضو فيها، كما يحق للكتل النيابية أن تنسج التحالفات التي تريدها، ولكن الكلمة الفصل في نهاية الأمر هي لصندوقة الاقتراع. حيث قد تأتي نتائج الانتخابات بتغييرات، وهذا امر طبيعي، وقد لا تأتي بأي تغييرات، أو بتغييرات طفيفة بحيث يبقى القديم أو معظم القديم على قدمه.