2024- 09 - 17   |   بحث في الموقع  
logo مضبطة إتهام لسفراء الخماسية!!.. غسان ريفي logo في معنى رحيل الياس خوري logo اجتماع الحكومة الإسرائيلية.. فتح جبهة لبنان قبل نهاية أيلول؟ logo الفقر يستهلك السوريين: الصيدلي بدل الطبيب والأطفال بسوق العمل logo خطط إسرائيل للتوغل في لبنان: استلهام "دفرسوار" 1973 logo إسرائيل في أقرب لحظة للحرب الشاملة.. وتجهّز غرف الطوارئ logo وزارة الدفاع الأميركية تحذر إسرائيل من حرب شاملة على لبنان logo ترامب يحمّل بايدن وهاريس المسؤولية عن محاولة اغتياله الثانية
"باريس بأحرف عربيّة": قِبلةُ الأجيال
2024-09-09 10:25:24

تمثل باريس ولا تزال قبلة المثقفين العرب، شدّوا إليها رحالَهم منذ القرن الثاني عشر مع أنّ طلائع التعامل بين الملك شارلمان والخليفة العباسي هارون الرشيد تعود إلى القرن التاسع، ومنها استمر التفاعل بين ضفّتيْ المتوسط إلى أيامنا، بما فيه من مفارقات وغموض؛ فالمدينة مرجعية التنوير ومقصد إصلاحيي النهضة التي رأوا فيها نموذج التمدن الأكمل.
وفي المقابل، هي عاصمة بلدٍ عتيّ انطلقت من أسوارها جيوش الاحتلال لتخوض أقسى حملات استعمارية استهدفت الوطن العربي. وبعد الاستقلال، ضمت معارضين سياسيين للأنظمة الحاكمة في المغرب والمشرق العربيَّيْن، مع أنها واصلت نهج الهيمنة وصدّت أبوابها أمام جحافل المهاجرين.
جلُّ أولئك الذين زاروا باريس صاغوا عنها تمثلات وخطابات، وإليها عادت الباحثة والصحافيّة الفرنسية كولين هوسيه Coline HOUSSAIS في كتابها: "باريس بأحرف عربية"، الصادر عن دار أكت-سود، من أجل إعادة رسم ملامحها لا من خلال المنهج التاريخي الخطي وإنما بإضافة نوادر وأحداث شخصية طريفة، مما جعل هذا التأريخ أشبه برواية تستعيد الوقائع مع تدخل الذات في تأويلها بغاية تفكيك هذه الثنائية التي طالما وسمت صورة باريس في المخيال العربي.
ينقسم الكتاب إلى أربعة فصول: عالجت هوسيه في القسم الأول الموسوم: "قبل أن تكون باريسُ باريسَ "الجذور الأولى لما أسمته: "الهوسَ المتبادل" الذي امتدّ من القرن السابع إلى القرن الثالث عشر، وهي الفترة التي تميّزت بالمغايرة التامة بين ثقافتيْن، رغم رغبتهما العارمة في اكتشاف بعضهما البعض؛ ومن آثار هذه الرغبة إصدار أول ترجمة للقرآن إلى اللاتينية بتوجيهٍ من الأب دو كلوني سنة 1141.
وخصصت الباحثة القسم الثاني لدراسة "عصر الأنوار حتى بدايات الاستعمار الفرنسي للجزائر" وما سبق ذلك من علاقات تجارية وديبلوماسية بين فرنسا والسلطة العثمانية وصولاً إلى نقطة تغيّر النموذج الحاكم لهذه العلاقة أثناء زيارة "الإمام" رفاعة الطهطاوي لباريس وتأليف "تخليص الإبريز" الذي كان اللبنة الأولى في رسم هوية عربية-إسلامية مغايرة للهوية الفرنسية ذات المرجعية المسيحية التي انتقلت تدريجياً إلى طور العَلْمنة باعتناق الجمهورية نظامًا في الحكم.
وتناول الفصل الثالث مرحلة توسّع الاستعمار الفرنسي (1870-1962) في دول المغرب العربي إضافة إلى سوريا ولبنان حيث تراوحت العلاقة بين إرادة الهيمنة الكلية وبين مقاومتها بالفكر والكلمة أو بالقوة والنار. وفيه ركزت الباحثة على حضور مناضلي حركات التحرر الوطني في باريس ذاتها للتفاوض مع سلطاتها، إذ طالما انعقدت في مقاهيها اجتماعات سياسية حاسمة وقُرّرت مصائر المستعمرات... جزئيًّا.
وأما القسم الرابع والأخير: "ساعة الما بعد" التي تمتد من 1962 إلى أيامنا، فدرست فيه هوسيه الفترة التي أطلقت عليها "الاحتلال العذب" حيث تقابلت مظاهر الحضور العربي الفني والموسيقى في مسارح باريس مع حضور الجنرالات والمعارضين في القصر الرئاسي لكيد الدسائس أو لإجراء مفاوضات سريّة.
وهكذا، فباريس التي استرجعت هوسيه تاريخَها هي جملة ما تراكم من التصوّرات والتمثلات حول هذه المدينة وما مارسته من "سحر" على المثقفين والمناضلين العرب الذين علقوا عليها آمال التقدم والتحرر ونظروا إليها بعيون ترنو إلى نموذج يجسد قيم العدالة والحق والتألق الفني، لا بعيون التاريخ الذي يضع التحولات ضمن سياقاتها وعللها ونتائجها. فقد نظر العرب للمدينة على ضوء ما كان يُعوِز بلدانَهم من مؤسسات قضائية وسياسية علاوة على القيم الديمقراطية التي غابت طويلاً عنهم، ولا سيما في طور "الانحطاط"، كما يُسمّى في أدبيات النهضة.
ولذلك يمكن أن نُعدّ هذا التاريخ حفرًا أركيولوجيا في التمثلات الثقافية التي بناها العرب تحت وطأة الانبهار ورغبة التحرر من التخلف نُشدانًا للازدهار، حفر تعقّب تحولات مضامين هاتين الهويَّتيْن، الفرنسية والعربية، اللتيْن بُنِيتا عبر التفاعل المستمر طيلة القرون الاثنيْ عشرَ التي شملتها هذه الدراسة، إذ كانت كل صفحة منها موثقة بعديد الأمثلة والشواهد حتى لَنَخال أنْ لا أحدَ من كبار المثقفين العرب إلا وقد مرّ من هنا، من هذه المدينة الفريدة، وفي جوانحهم ازدواجية حارقة: انبهار بالنموذج الذي تجسده باريس ورفضٌ لفظاعات الاستعمار والغُلواء التي صاحبته. ألم يُلق في نهر السّان متظاهرون جزائريون مسالمون بمرأى ومسمعٍ من المدينة؟
فليست باريس التي استعادت الباحثة أصداءها هنا مفهومًا مجرَّدًا أو تمثلاً غائما، بل حضورٌ ماديّ بمقاهيه المعروفة كمقهى "المترو" و"دو-ماغو" في حي سان جيرمان الراقي وبمسارحه (مسرح أوديون) ثم بساحاته وقصوره وما فيها من رمزية سياسية استوحاها المناضلون العرب على مختلف مشاربهم، هذا بالإضافة إلى معالم الثقافة والتعليم مثل السوربون ومعهد العلوم السياسية وكليات الحقوق ومعهد اللغات الشرقية التي تنور في أروقتها كبارُ مثقَّفينا.وكان لتحاليل هذا الكتاب أن تكون أشمل عبر تخفيف الأسلوب السردي الغالب على فصوله، ثم بالعودة أكثر إلى نصوص العرب أنفسهم أكانوا رحالة طيلة القرن التاسع عشر (من دون التركيز فقط على الطهطاوي، إذ جاء بعده رحالة كُثْر) أو مفكرين كالأفغاني وعبده أو سياسيين موالين ومعارضين، فكلهم حضروا في باريس وكتبوا فيها وعنها بموضوعية وبذاتية؛ فكانت كلماتهم مرآة هذه الصور المتناقضة المُعضِلة عن مدينة "الأنوار" ودولة الاستعمار.
بمعنى أن تفكيك الخطاب العربي حول باريس استند هنا إلى التاريخ الثقافي الخارجي أكثر من اعتماده على تحليل النصوص متنوعة الأجناس بما فيها من شكوك وانتقادات جريئة. فعلى سبيل المثال، أحمد بن أبي الضياف، كاتب سر بايات تونس الذي زار باريس سنة 1846، كتبَ رحلتَه وضمنها انتقادات صريحة لكبرياء الفرنسيين في بلدانهم وتضاؤلهم خارجها. هذا الأسلوب نفسه اتبعه سائر المثقفين الذين طالما عبروا عن خيبةٍ ما إزاء مفارقات باريس، وآخرها رواية صابر منصوري: "باريس ديْن، لا عيد".
كما تُعوز الكتابَ المقارنة بين التمثلات عن باريس وبين كبريات المدن الأوروبية الأخرى مثل لندن وروما وجنيف، علمًا أنّ عديد الرحالة والمثقفين كان يزورون هذه العواصم دفعة واحدة، مثل الشدياق وبيرم الخامس وأرسلان. ومن شأن هذه المقارنة أن تُنَسِّب بعض الاستنتاجات حول الدور المحوري الذي لعبته باريس في أدبيات النهضة، فهي، رغم أهميتها، لم تكن سوى تجلٍّ لنموذج منشود، أريد منه إصلاح الواقع العربي المنحط.
"باريس بأحرف عربية" رحلة مشوقة مُوثّقة، تتبعت مسار التعالقات التي انعقدت بين هويتين متغايرتَيْن، حكمهما الصراع مرة والتكامل مرات، لكن كُتب عليهما التعايش والحوار، ولا يزال هذا القدر ساريًا إلى اليوم، وما على رجالات الفكر والسياسة إلا أن يعيدوا ابتكار هذه العلاقة ومضامينها بعيدًا عن عُقَد الماضي وصراعاته حتى نقترب أكثر من مبدأ الندّية في عالمٍ محا فيه الاتساع الرقمي كل الحدود، سوى هذه الأسوار الإدارية التي يُقيمها اليمين المتطرف بسبب ما ورثه من ازدراء للآخَر... العربي-الإسلامي، طبعًا.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2024
top