تتزامن محاولات وقف الحرب الفلسطينية الإسرائيلية بين حماس وإسرائيل، مع نهج تصعيدي إسرائيلي تحاول الدولة العبرية من خلاله اقتناص فرصة الفراغ المتحكم بالإدارة الأميركية، كون هذه الإدارة ولا سيما مركز القرار الأول فيها ونعني هنا رئاسة الولايات المتحدة، التي دخلت مرحلة تجاذب لم يسبق لها مثيل بين الجمهوريين بقيادة دونالد ترامب وكامالا هاريس الديمقراطية التي تشغل نيابة الرئاسة والتي تحاول العودة رئيساً إلى البيت الأبيض. ويندرج تصرف نتنياهو في خطته لإطالة عمر الحرب التي لم يستطع تحقيق الانتصار من خلالها، مع مصلحته الشخصية إذ إنه يحاول عبثاً الاستمرار في البطش والتنكيل بالمدنيين وارتكاب المجازر، معتمداً من جهة على دعم أميركي عسكري ودبلوماسي غير محدود، ومن جهة أخرى على تغلغل الصهيونية في كل مفاصل الحياة والسياسة في كافة بلدان العالم الغربي، والدعم الذي توفره من خلال الإعلام والمؤسسات الإعلامية المملوكة من اللوبي الصهيوني والتي تحاول دائماً تجميل صورة الدولة العبرية والتخفيف من وقع مجازرها وارتكاباتها بحق المدنيين، فبدلاً من إظهار الحقائق والإضاءة عليها تقوم هذه الوسائل بقلب الحقيقة وإظهار الفلسطينيين كقوم مُعتدي وليس مُعتدى عليهم. وهكذا تتحول الغارات على المدارس والمستشفيات ومراكز إيواء النازحين المدنيين، إلى مجرد عمليات عسكرية الهدف منها ضرب أوكار الإرهاب والقضاء على الإرهابيين.
أميركا الغائبة الحاضرة
في ظل هذه الأجواء يقوم البيت الأبيض بمحاولات حثيثة لإرساء وقف لإطلاق النار في غزة من خلال ما عرف بخطة بايدن، وذلك في محاولة لوضع حد للحرب وتحقيق عودة المحتجزين الإسرائيليين والمعتقلين الفلسطينيين، ومن ثم عودة النازحين إلى كامل غزة لا سيما مناطق الشمال منها والبدء في إعادة الإعمار. هذه العملية التي قد تستغرق سنوات لتحقيقها، هذا إذا صدقت النوايا، والتزمت إسرائيل بوقف النار في المرحلة الأولى. وقبل التوصل إلى ذلك ودونه عقبات كثيرة، ليس أقلها شروط نتنياهو المستجدة المتعلقة تارة بضرورة تعداد وتفتيش العائدين إلى شمال القطاع، وطوراً إلى الإبقاء على معبر فيلادلفيا بين غزة ومصر، وكذلك الإبقاء على معبر نتساريم بين شمالي القطاع وجنوبه بأيدي الجيش الإسرائيلي. كل ذلك استدعى تدخلاً دبلوماسياً قوياً فتم إرسال وزير الخارجية أنطوني بلينكن في محاولة لإقناع نتنياهو بضرورة القبول بخطة بايدن والعمل على تنفيذها، وكذلك محاولة إقناع حماس من خلال قطر ومصر للقبول بتدوير الزوايا مع الجانب الإسرائيلي. وإذا كانت أميركا حاضرة بقوة من خلال ترسانتها العسكرية في المتوسط وحتى من خلال معداتها العسكرية، التي من دونها لا يمكن لإسرائيل من الدفاع عن نفسها والصمود أمام التهديدات الإيرانية والحزب اللاهية، فإن دبلوماسية الدولة العظمى الأولى لم تزل تترنح أمام الدلع الإسرائيلي، فإذا كانت أميركا "الديمقراطية" بحاجة إلى إعطاء الناخب الأميركي العربي المؤيد لفلسطين سبباً وجيهاً لدفعه للتصويت لكمالا هاريس، فإن أميركا نفسها لا تستطيع إغضاب الناخب اليهودي الذي لم يزل يشكل أكبر قوة ناخبة متماسكة، وبالتالي فإن بلينكن مضطر لاستعمال منطق الإقناع مع نتنياهو أكثر من استعمال منطق الضغط.
نتنياهو أطلق رصاصة الرحمة على محاربة السامية
لقد اتسمت العلاقات اليهودية العربية ما قبل القضية الفلسطينية وإنشاء دولة إسرائيل في العام 1948 بالجيدة والمتسامحة، فكان اليهود يعيشون بسلام في مختلف بلدان العالم العربي والإسلامي، وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إبان الحروب الصليبية في القرن الثاني، وفي مفارقة تاريخية حارب اليهود مع جحافل صلاح الدين ضد الصليبيين، مما جنب اليهود من الاضطهاد لاحقاً. هذا وتنبغي الإشارة إلى أن العلاقات بين دول الخليج والدولة العبرية كانت تعيش شهر عسل تجاري واستثماري في مختلف المجالات. فأين اصبحت اليوم هذه العلاقات؟ فبدون أدنى شك فإن العدو الأكبر للدولة العبرية هو بنيامين نتنياهو نفسه الذي استطاع في غضون أقل من عشرة أشهر من بدء الحرب على غزة من تدمير كل القيم الإسرائيلية دفعة واحدة، فهو استطاع :
1- تدمير صورة الجيش الذي لا يقهر.
2- تدمير الصورة الإنسانية للجيش الإسرائيلي الذي اصبح الجيش الأكثر دموية وإجراماً في العالم.
3- تدمير العلاقات ليس فقط الإسرائيلية العربية إنما أيضاً وهذا ما هو الأخطر أستطاع إطلاق رصاصة الرحمة على التعايش اليهودي العربي، وجعل من الإسرائيلي عدواً، وأصبح معه من شبه المستحيل إقناع اي مواطن عربي بإمكانية نسج علاقة طبيعية مع إسرائيل.
حبيب البستاني - كاتب سياسي