لم يكن 19 تشرين الأول 1987 ،المعروف بال “ Black Monday” يوما عاديا أو حتّى صعبا في تاريخ الاقتصاد العالمي ،بل حدثا مأساويا أليمًا ترك ندبة عميقة في الذاكرة الجماعية للمستثمرين وصناع القرار، إذ سجّل هذا اليوم بداية أول ازمة مالية ضربت الأسواق العالمية، و أدّت الى انهيار غير مسبوق في الاقتصاد العالمي .
واليوم، وبعد مرور عقود، يعيد التاريخ نفسه. فقد شهد العالم في 5 آب 2024 انهيارًا ماليًا جديدًا أربك أسواق المال وهز أسس الاقتصاد العالمي، كانت ساحته الأولى سوق الأسهم الياباني، لكن سرعان ما انتقلت العدوى إلى كل البورصات العالمية التي أظهرت خسائر قياسية، اذ سجلت بورصة Wallsrreet تراجعا بأكثر من 100 نقطة، كما سجل مؤشر الأسهم اليابانية Nikkei أسوأ خسارة يومية منذ “الاثنين الأسود” المشؤوم. وانخفضت أسعار النفط والذهب الذي يعتبر ملاذا آمنا للمستثمرين، كما هبطت عملة البيتكوين ، ووصل مؤشر الرعب الى نسبة 180%.
فما هي الأسباب الكامنة وراء هذا الهلع العالمي؟ وكيف يمكن تفسير هذه التراجعات الحادة؟
ولماذا تمّت خسارة تريليونات الدولارات في أيام قليلة؟
بداية مع اليابان، لا بد من الإشارة أن الاقتصاد الياباني يشكل نوعا ” فريدا ” بحدّ ذاته من الاقتصادات العالميّة. ولعلّ أهمّ ما يميّز هذا الاقتصاد هو انخفاض سعر الفائدة فيه الى مستويات قريبة من الصفر ، وأحيانا لمستويات سالبة. ويعود هذا الانخفاض إلى تجربة اليابان المريرة مع فقاعة الأصول في التسعينيات، والتي أدت إلى “العقد الضائع” وتآكل ثقة المستهلك. خلال هذه الأزمة انخفضت قيمة العقارات في اليابان بنسبة 87% مقارنة مع اعلى مستوى لها قبل انفجار هذه الفقاعة، وقد أدّى هذا الهبوط الهائل الذي شاهدته أسعار الأسهم والعقارات في خسارة البلد ثروات قيمتها تعادل الناتج المحلي الإجمالي لليابان في ثلاث سنوات ، وعلى حدّ تعبير “ريتشارد دكو ” كبير الاقتصاديين في معهد نومورا الياباني أنها ” أكبر خسارة للثروة في تاريخ البشرية عانى منها أي بلد في زمن السلم” . ونتيجة لحالة التروما التي خلّفتها هذه الأزمة، ظهرت نسخة مختلفة من المواطن الياباني عن نسخة الياباني المعروف في الثمانينات بأنّه أكبر المنفقين في العالم بذخًا، وأصبح لليابانيين ميل شديد نحو الادخار؛ الأمر الذي دفع بنك اليابان المركزي الى خفض معدل الفائدة على القروض قصيرة الأجل لحدود صفر% لتشجيع اليابانيين على صرف أموالهم سواء بصورة إنفاق أو استثمار؛ ومنذ نهاية التسعينيات حتى اليوم والمركزي الياباني يعتمد الفائدة الصفرية بغض النظر عن تحركات البنوك العالمية والبنك الفدرالي الذي رفع الفائدة، منذ حينها، لأكثر من ١١ مرة ووصل الى فوائد قياسية في ظل التوترات الجيوسياسية الحالية.
أما عن أسباب المجزرة التي حصلت في البورصة العالمية فجأة وبسرعة في 5 آب 2024، فيمكن تلخيصها بالتالي:
أوّلا، ان رفع البنك الياباني المركزي الفائدة بقرب 0.25% للمرّة الثانية خلال هذه السنة بعد أن كان قد رفعها في آذار الماضي، وتصريحات محافظ البنك الياباني عن احتمالية الاستمرار في الرفع من جهة، اضافة الى خفض البنك الفدرالي الفائدة من جهة أخرى جعل المستثمرين -الّذين كانوا يقترضون باليان الياباني لأن الفائدة عليه صفرية ويقومون بتحويل المبالغ إلى عملات أخرى ( الدولار) واستثمارها في بنوك تعطي عوائد أعلى لتحصيل الربح من الفرق بين العوائد ، (ما يعرف بتجارة المناقلة أو ال Carry trade )- ، يشعرون أنه تم وضع ” كمّاشة” عليهم من الجهتين وأن ال carry trade باتت غير مجدية، الأمر الذي دفعهم الى بيع عملة الاستثمار ( الدولار) وشراء عملة الاقتراض( اليان الياباني) وبيع كل الحيازات و الأسهم لتغطية خسائرهم والخروج من ال Carry Trade. وفي ظل الإقبال على شراء اليان ارتفع سعر الين مقابل الدولار بغضون أيام ، وانخفضت قيمة العديد من عملات الاستثمار في العالم.
ثانيا، لقد لعب تقرير الوظائف الذي أصدره مكتب إحصائيات العمل في أمريكا دور ا كبيرا في تأجيج الخوف عند المستثمرين، اذ أضاف 114 الف وظيفة فقط، وهذا أقل من التوقعات التي توقعها المحللون والتي قدّرت بحوالي 175 الف وظيفة ؛ ما يعني أنّ هناك فرق يقارب ال 35% بين التوقعات و الواقع ؛ إضافة الى تقرير معدل البطالة الذي وصل إلى 4.3% وهو أعلى مستوى منذ تشرين الأول 2021 . كل هذه البيانات والأرقام أثارت المخاوف عند المستثمرين أن الولايات المتّحدة تواجه الكساد، ودفعت برئيس البنك الفدرالي “جيروم باول ” لتخفيض الفائدة سعيا منه لانعاش الاقتصاد وتجنيب البلد فخ الركود.
ثالثا، إن التفاؤل الكبير بالذكاء الاصطناعي وحجم الإنفاق والاستثمار الذي ينفق على شركات التكنولوجيا ، وشعور المستثمرين أنه حصل مبالغة في تقدير التأثير المتوقع بالذكاء الاصطناعي ، دفع العديد من المستثمرين الى الهروب من شركات التكنولوجيا العملاقة magnificent 7، خاصة بعد أن جاء ت تقارير أكّدت أن NVIDEA وهي أيقونة الذكاء الاصطناعي غير قادرة على تصنيع الجيل الجديد من الرقائق في الوقت المحدد؛ ما أثر على الشركات الأخرى للاستثمار بالذكاء الاصطناعي وقد أظهر مؤشر DJones الصناعي انخفاض أكثر من 1000 نقطة كما أن مؤشر NASDAQ الذي يضم شركات التكنولوجيا تراجع بعنف بسبب خروج المستثمرين من شركات الذكاء الاصطناعي بعد نتائجها المخيبة ؛ وقد كان من المتوقع أن الذكاء الاصطناعي سيكون بمثابة game changer وسيؤدي ال قفزة في الانتاجية Leap in Productivity .
ولعل تحركات أشهر المستثمر ين في العالم Warren Buffet الذي باع نصف حصته في شركة Apple مقابل 75.5 مليار دولار كان له أكبر تاثير على معنويات المستثمرين وأدى الى تراجعات عنيفة في استثمارات شركات التكنولوجيا العملاقة في يوم آب الشهير، بعد أن كانت قد وصلت إلى ارتفاعات قياسية وصلت الى ما يقرب ال 100 مليار دولار في أربع من الشركات الكبرى .
ومع وجود كل هذه العوامل، يصح السؤال هل كان الانهيار مفاجئا أم مرتقبا؟
وكيف يمكن لكلّ هذه الحقائق أن لا تكون في الواجهة قبل يوم 5 آب؟
الحقيقة ان الجميع يعتقد أن اقتصاد امريكا هو ما يعرف ب”Goldilocks Economy” أي أنه قوي لدرجة لا يمكن لشيء ان يوقفه، غير بارد لدرجة الركود وغير ساخن لدرجة التضخم، وهذا ما كان يؤدي إلى الارتياح؛ لكن عندما صدرت طلبات اعانات البطالة الاسبوعية العالية ، وبالاعتماد على” قاعدة سهم” المعروف ب “ Claudia Sahm Rule“ ، أثيرت المخاوف عن بوادر حالة الركود. فهل هذه المخاوف محقّة أم مبرّرة؟
لا بد من الإشارة أنّه بعد الخسائر الفادحة التى هزت الاقتصاد يوم الاثنين 5 آب ، اظهرت البيانات الاقتصادية الجديدة التي صدرت مع طلبات إعانة البطالة يوم الخميس 8 آب ، انخفاضا من 250000 الى 233000 أي ما يقارب ال 17000 وهذا أكبر انخفاض منذ حوالي سنتين، وقد أكد هذا الانخفاض أن سوق العمل في أميركا ما زال صامدا ، وعليه سجلت بورصة Wallstreet أفضل مكسب لها منذ تشرين الثاني 2022.
وهكذا فقد شكّل هذا الاسبوع الاول( من 5 حتى 8 آب 2024) أسوأ أداء وأفضل أداء على السواء، وعاد مظهر من الهدوء يخيم على المشهد الاقتصادي العالمي؛ لكنه دون شك هدوء مشوب بالكثير من الحذر …
لا بدّ من الانتظار ومراقبة المؤشرات والبيانات للتأكد من ان لأسواق العالمية تجاوزت فعلا “صدمة” الاثنين الأسود، ام اننا على شفا أزمة مالية جديدة قد تهدد الاقتصاد ليس فقط في امريكا بل في العالم كلّه ، فكما يقول المثل الشعبي ” إذا عطست أمريكا، أصيب العالم كلّه بالزكام”.
الكاتبة: إيمان درنيقة الكمالي
أستاذة جامعية – باحثة سياسيّة..
موقع سفير الشمال الإلكتروني