لبنان- الحلم الممكن
2024-07-04 11:25:38
يتذكر الكثيرون من اللبنانيين بحسرة ومرارة " الزمن الجميل" حيث عرف لبنان حقبة ذهبية. لكن الأكثرية الساحقة من سكان لبنان الحاليين لم يكونوا قد ولدوا بعد ليعرفوا تلك الحقبة، دون اغفال معرفتهم وتقديرهم للإرث الثقافي والفني الرائع لتلك الحقبة (الرحابنة وفيروز، المسرح والشعر والإنتاج الادبي والثقافي...). لا يمكنهم اذن التحسر ولا يستطيع المتحسرون إعادة لبنان الى ما كان عليه. فالزمن مضى ويمضي وجرت تحولات كبيرة لا تتيح العودة الى ما كان والبكاء على اطلال مجد غابر لا يغير الحاضر ولا يؤسس لمستقبل أفضل.
وإذا كان هذا التحسر مبررا ومفهوما في ظل المعاناة نتيجة للانهيار الشامل على كافة الأصعدة فلا بد من التذكير ان ما نعيشه وعشناه من حروب أهلية وانهيارات وتصدع الكيان هو نتيجة تراكمية للخلل البنيوي في النظام الطائفي الذي منع قيام دولة المواطنة والقانون.
فالمادة 7 من الدستور تنص على:
"كل اللبنانیین سواء لدى القانون وهم یتمتعون بالسواء بالحقوق المدنیة والسیاسیة ویتحملون الفرائض والواجبات العامة دونما فرق بینهم."
وتكمل المادة 12:
" لكل لبناني الحق في تولي الوظائف العامة لا میزة لأحد على الآخر إلا من حیث الاستحقاق والجدارة حسب الشروط التي ینص علیها القانون.
لكن ورغم التعديلات التي ادخلها اتفاق الطائف على التخلي عن التوزيع الطائفي للوظائف العامة باستثناء وظائف الفئة الأولى، لم تتغير عمليا سياسة المحاصصة الطائفية مما يعني فعليا نقضا صاخا لهاتين المادتين وحلت منذ الاستقلال سياسة التعيينات الطائفية بديلا عن الكفاءة والتساوي بين المواطنين. فتكرس واقع ان مصالح زعامات الطوائف تدير الدولة عوضا ان تكون الدولة السلطة التي تنظم وتدير الشأن العام.
كما تجنب النظام اللبناني الإجماع الدولي على استراتيجية التنمية لدول ما بعد الاستعمار التي دعت إلى دور مركزي للدولة في إدارة وتوجيه الاقتصاد الوطني نحو سلسلة من أهداف التنمية الاجتماعية والاقتصادية الواسعة. لكنه اعتمد استراتيجية مختلفة تماما مستبقا مؤسسات بريتون وودز "التي أنشأت صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والغات ولاحقا منظمة التجارة العالمية" والتي تدعو إلى سياسات عدم التدخل، وهي سياسات يحركها السوق والتي تحصر دور الدولة في دور الحامي والحماية. وهذا يتماشى بشكل عام مع الدور المنوط بالدولة في ظل الليبرالية الجديدة. ويمكن تطبيق مصطلح "الليبرالية الجديدة" بشكل مباشر على الحالة اللبنانية، حيث ساد النموذج النيو ليبرالي. فسارعت الحكومات المتعاقبة إلى تفكيك إجراءات الحماية المعتمدة خلال الحرب العالمية الثانية، مثل ضوابط العملة ورأس المال والتجارة، وإبقاء الضرائب وحصر الإنفاق العام إلى الحد الأدنى الذي يحفظ فيه تماسك سياسة التنمية الوطنية. فأصبحت التجارة والخدمات التجارية (وخاصة المالية) والسياحة حجر الأساس للنظام الاقتصادي، مع الحفاظ على البنية الاقطاعية للأراضي وتكريس دور ما اصطلح على تسميته بالإقطاع السياسي.
توزيع الثروة المتراكمة التي ولدتها مثل هذه الأنشطة غير متناسب، فبينما بدا الدخل الفردي مرتفعا بالمقارنة مع المعايير الإقليمية، والأرقام الرسمية تخفي التفاوت الشديد في مداخيل مختلف قطاعات المجتمع. فكما تظهر نتائج دراسة موسعة للبنانيين أجراها فريق بحث فرنسي (ارفد) في أوائل الستينيات على مداخيل الأسرة، أعطى إحصاءات بيّن من خلالها سوء توزيع الثروة الوطنية، حيث “يستأثر 4% من مجموع الشعب بـ 32% من الدخل القومي. وإذا أضفنا إلى هذه الطبقة الغنية، الطبقة المتوسطة (14% من الشعب) أصبحتا تشكلان 18% من مجموع الشعب وتستأثران بـ 60% من الدخل القومي. أشارت النتائج إلى وجود تباين كبير للغاية. ف 40% من العائلات بلغ دخلهاً حوالي 1500 ليرة لبنانية شهريًا، وأدنى 45% من الأسر حصلت على حوالي 350 ليرة لبنانية فقط.
وفي نهاية المطاف، أثبت النظام اللبناني عدم قدرته على الصمود في وجه الضغوط الإقليمية والدولية والداخلية مما أدى إلى انهياره وبداية العنف الطائفي في البلاد1975. وما تلا ذلك كان صراعاً طائفياً دموياً ممتداً استمر خمسة عشر عاما واجتذب العديد من القوى الإقليمية والدولية، وأسفر عن مقتل عشرات آلاف الأشخاص والدمار المادي لجزء كبير من البلاد.
يعود ذلك الى سيطرة مجموعة غير متجانسة من العائلات الثرية من مختلف الأطياف الطائفية على الحياة السياسية والاقتصادية للبلاد (تعاظم نفوذها منذ الخمسينات) في خدمة مصالح الفصيل المهيمن داخل النخبة اللبنانية، التجارية والمالية، التي تنبع ثروتها وقوتها من قبضتها الاحتكارية على التجارة، والخدمات، والتمويل، والأعمال. فعملت على التفكيك السريع للاقتصاد الموجه نسبيا في زمن الحرب ولا سيما الضوابط المالية في أواخر الأربعينيات، والرد على تصرفات هذه الطبقة من قبل قطاعات أخرى من المجتمع اللبناني شملت اللبنانيين الأثرياء ذوي المصالح الصناعية، وكذلك من قبل الحركة العمالية واليسارية لم يتمكن من مواجهة ذلك النهج. واستمرت سيطرة تلك الطغمة على السلطتين التنفيذية والتشريعية للدولة وادخلت للحفاظ على النظام الطائفي شركاء جدد من امراء الحرب الاهلية وصنائع الاحتلالات والوصايات الخارجية التي أضحت لاعبا اساسيا في صناعة القرار والحياة السياسية في البلاد.
هذا المسار التراكمي أجهض وجوّف بعض المحاولات الإصلاحية، (في الحقبة الشهابية حيث انشأت مؤسسات عديدة لإدارة شؤون الدولة وفقا لتوصيات بعثة ارفد الضمان، الخدمة المدنية، ديوان المحاسبة، التفتيش، مجلس مشاريع، التصميم العام، المصرف المركزي، إطلاق الجامعة الوطنية، إطلاق دار المعلمين ولا حقا كلية التربية مما أدى الى توسيع التعليم وانتشار المدرسة الرسمية وانطلاق جدي للثانويات وفّر الاساس لطبقة وسطى واسعة).
فبدأ تلاشي دور الدولة الراعية والتي تشكل شبكة امان اجتماعي، التي أطلق مؤسساتها فؤاد شهاب، منذ منتصف عهد خليفته شارل الحلو. سقطت الدولة نتيجة حرب ال٦٧ بقرار التخلي عن السيادة من خلال اتفاقية القاهرة التي دشنت زمن تخلي المنظومة السياسية عن السيادة وبدء زمن شراء النفوذ مقابل الدعم الخارجي. (مما فرض تباعا طبقة سياسية مطواعة للخارج). تقدمت معالم تلاشي الدولة بقوة خلال الحرب الاهلية التي أدت إلى إمساك النظام السوري بقرار البلد فكان الانقلاب على الطائف والدستور والجمهورية.
ورغم انتفاضات واحتجاجات شعبية عارمة تم قمعها وافشالها، أوصل هذا المسار الكيان الى انهيار اقتصاده ونهب موارده وارزاق شعبه وتجويف مؤسساته وتحويله الى ساحة للصراعات الدولية والإقليمية والى افقار غالبية المقيمين على ارضه التي أصبحت مستباحة للخارج.
وعوضا عن إعادة بناء الدولة والبنى التحتية التي دمرتها الحرب الاهلية، وفي ظل وصاية سورية بمباركة دولية وإقليمية نتيجة لحرب الخليج، تم تجاهل إصلاحات اتفاق الطائف وساد نهج دون أي رؤية متكاملة لورشة اعمار تميزت بالفوضى وانعدام التنسيق والهدر والفساد والزبائنية في ظل الاحتلال الإسرائيلي والهيمنة السورية وسيطرة امراء الحرب وحيتان المال على الإدارة السياسية لتقاسم الغنائم ونهب الأموال العامة وزيادة مديونية البلاد وصرف الميزانيات وفق محاصصة بين زعماء الطوائف وحماتهم الخارجيين (عبر صيغة الترويكا). مما زاد من رغبة القوى الإقليمية في تشديد قبضة هيمنتها على البلاد فأقدمت على اغتيال الحريري في سياق مخططها لتكريس ديمومتها. لكن ردة فعل اللبنانيين في انتفاضة الاستقلال وتقاطعها مع معطيات دولية وإقليمية فرضت انسحاب القوات السورية بعد ان سبقها انسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان. لكن القيادات الطائفية وفي ظل غياب معارضة سياسية جذرية ومنظمة افشلت تلك الانتفاضة واستمرت في الاحتماء بالخارج وبالسلاح غير الشرعي لضمان استمرار تقاسم الغنائم والمحاصصة مما عزز منحى التنازل عن السيادة والتبلور السريع لمشروع فئوي بديل عن مشروع الدولة.. سياسات ما بعد ذلك عزلت لبنان فكان تسارع مسار الانهيار المالي والاقتصادي وتجذر الفساد وهيمنت قوى السلطة على الهيئات النقابية والمهنية والمدنية وجعلها أداة لها بدل ان تؤدي دورها في الدفاع عن مصالح الفئات الشعبية. لكن المعاناة الشعبية أطلقت انتفاضات ولو محدودة وعفوية لم تنجح لافتقادها الى الدعم الشعبي الواسع ولانعدام الحياة السياسية بفعل غياب أدوات نضالية لقوى سياسية جذرية منظمة ومتماسكة.
هذا التراكم أدى الى الانتفاضة الشعبية العفوية في 17 تشرين. لكن افتقادها لبروز قوى سياسية منظمة أدى الى ملء ذلك الفراغ بكم هائل من المتسلقين والمنصات الوهمية ومنتحلي الصفة. لكن التصويت العقابي ضد المنظومة ورغم الثغرات التي شابت الحملات الانتخابية والترشيحات كان معبرا عن مقدار الرفض الشعبي الكامن لإدارة المنظومة لشؤون البلاد.
اما وقد اوصلنا النظام هذا ومنظومته التي عززها امراء وأثرياء الحرب بالتحالف مع المصارف والبنوك الى الانهيار الشامل والخطر الوجودي الذي يهدد الكيان برمته فيتوجب على كل حريص على لبنان وشعبه ومقيميه ومستقبل شبابه واطفاله ان ينخرط بنشاط في مسار التغيير للخلاص من هذه الطغمة والنهوض بالبلاد.
هذا النهوض ممكن ومتاح لكنه يحتاج الى إدارة سياسية مناقضة تماما لكل ما سبق ولكل من شارك في ايصالنا الى الانهيار. وقد رفعت ثورة 17 تشرين شعارا فائق الأهمية وهو تشكيل حكومة مستقلة بصلاحيات تشريعية لفترة انتقالية.
هذه المهمة غير قابلة للتحقيق دون تغيير في ميزان القوى الداخلي يفرض تحقيقها ويفرض حيثيته على التقاطعات الدولية والإقليمية. والخطوة الأساسية لمسار تغيير ميزان القوى ذلك هي قيام أحزاب سياسية جديدة ولو تباينت ما بين جذرية واصلاحية لكنها علمانية وتضم كفاءات نزيهة الكف ومعنية بالشأن العام وبالمصلحة الوطنية. وستتمكن تلك الأحزاب والتنظيمات من التوصل الى برامج مرحلية مشتركة تتكون حولها جبهة تحشد كل الطاقات الشعبية لتحقيق مسار الإصلاح والتغيير ومراقبة تطوره.
لذلك فان النخب الواعية مدعوة بإلحاح الى انشاء مثل تلك الأحزاب والتنظيمات التي تتشابه في رفضها لاستمرار النظام الطائفي ولو تباينت فيها الآراء حول السبل والمراحل. ان تغيير ميزان القوى الداخلي القادر على فرض قيام حكومة انتقالية مستقلة بصلاحيات تشريعية حتى يتسنى فرض قانون انتخابي جديد لا يكون مفصلا على مقاس القوى الطائفية الحاكمة كما هو الحالي لكي يختار الشعب اللبناني ممثليه في مجلس تشريعي يمارس فعليا هذا الدور ويطلق مسار التغيير وإعادة البناء.
وسيكون لتلك الحكومة المتحررة من تدخلات مكونات المنظومة مهام ملحة وقابلة للتحقيق في فترة وجيزة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
حشد كل الموارد المتوفرة للنهوض بالوضع الاقتصادي والمعيشي ومن ضمنها وقف الاستباحة المزمنة للأملاك البحرية وتحصيل عوائدها المنسية والمتراكمة ووقف التهرب من الرسوم الجمركية والضرائب واستعادة الأملاك والأموال الناجمة عن ذلك التهرب وعن الفساد والرشوة.
اصلاح القطاع المصرفي ودمج العديد من بنوكه وفق قانون النقد والتسليف الذي تم تجاوزه لعقود وخرقه في معظم الأحيان وتحميل مالكي الأسهم وأعضاء مجالس إدارة المصارف المشاركة والمستفيدة من سياسة الفساد مسؤوليتهم وتجربة ايسلندا مثال يمكن الاستفادة منه حيث خيّر أولئك بين السجن والتعويض. وسيوفر ذلك ارصدة كافية للبدء بالتعويض ولو التدريجي لأصحاب الودائع النظيفة. مراجعة وضع المصرف المركزي وتعيين الهيئات المتعلقة بمراقبته ومحاسبته وفق معايير الكفاءة بعد استكمال تدقيق الحسابات للعقود المنصرمة وما فد يتطلبه ذلك من تعديلات او تشريعات مستحدثة.
تعزيز استقلالية القضاء بما يتطلب من اصدار قوانين تؤمن كليا فصل السلطة القضائية عن السلطات الأخرى وتطهير صفوفه من بعض افراده الفاسدين والمتواطئين مع عصابة الفساد.
اطلاق ورشة تأمين البنى التحتية من كهرباء ومياه ونقل وصرف صحي وفرز النفايات ويمكن الاستعانة بالقطاع الخاص عير نظام BOT . وقد رفضت حكومات الفساد المتعاقبة عروضا كثيرة لتوليد الكهرباء واحياء السكة الحديدية وانشاء مترو ساحلي ونفق حمانا شتورة على سبيل المثال.
تعزيز الجيش وتسليحه ومنع أي سلاح خارج سلطته مع ما قد يتطلبه ذلك من تشريعات وسياسات مالية لازمة، لكي يبسط سلطته الكاملة على كافة الأراضي اللبنانية دون استثناء ويضمن مراقبة حدودها. تعزيز الأجهزة الأمنية ومراجعة هيكليتها وتأهيلها لتصبح فعلا ساهرة على امن المواطنين وخدمتهم.
العمل على مراجعة الترسيم البحري الذي جرى فيه التخلي عن ثروة لبنان الوطنية لصالح العدو الإسرائيلي لابل وجعله شريكا في حقل قانا. تعديل القوانين المتعلقة باستخراج الثروة النفطية والغازية التي جعلت من مكونات المنظومة الراهنة شريكا في تلك الموارد. إطلاق مناقصات سريعة وشفافة لاستثمار البلوكات البحرية وانشاء صندوق تنمية وطنية من مواردها مع هيئات نفطية وإدارية كفؤة ونزيهة.
إطلاق ورشة تشريعية لسن قوانين عصرية وديمقراطية تعيد الى الهيئات النقابية والمحلية والمهنية صفتها التمثيلية الفعلية ودورها في رعاية شؤون ومصالح الشرائح التي تمثلها.
هذه بعض المهام الملحة التي يمكن للحكومة الانتقالية المباشرة في تحقيقها مترافقة مع ورشة عمل لوضع قوانين انتخابية عصرية قد تعتمد في البدء النسبية على نطاق المحافظات الادارية للمجلس النيابي وللمجالس البلدية وتنفيذ ما ورد في اتفاق الطائف من انشاء مجلس للشيوخ وهيئة الغاء الطائفية والمجلس الاقتصادي والاجتماعي وتعزيز اللامركزية الإدارية وغيرها من البنود التي تم تجاهلها للبدء بمسار التخلص من النظام الطائفي وقيام الدولة العلمانية المرتكزة على مفهوم المواطنة والانتماء الوطني الشامل الذي يتسع لكافة الانتماءات من مذهبية ومناطقية وعائلية. هذا المسار كفيل بإيصال البلاد الى درب النهوض واجراء انتخابات تفرز ممثلين فعليين لتطلعات اللبنانيين في ظل وضع شعبي يمنع كل محاولة لتجاهل او قمع تلك التطلعات ويفرض محاسبة كل من ساهم في الانهيار من فاسدين وناهبين وتابعين لمصالح القوى الخارجية.
جهاد شمص-المدن