وضع لبنان في أسوأ مراحله؛ الدولة متحلّلة تحدّها العبوات الناسفة من كل جانب. السياسة عقم مزمن، ألقى مصير هذا البلد في أيدي عابثين أمعنوا فيه تخريباً وتعطيلاً وإعداماً لكل سبل نجاته وإعادة نهوضه، وزرعاً لكل ما يعمّق الفرقة والانقسام. الأمن في الداخل مفخخ بالفوضى والفلتان، وعلى الحدود شرقاً وشمالاً مفخخ بعبوة النازحين السوريين وبموانع خارجيّة لتفكيكها ونزع فتيلها ومنع انفجارها في المجتمع اللبناني. واما على الحدود جنوباً، فساحة حرب حقيقية تتطاير شراراتها في كل الأرجاء.
وما من شك أنّ المواجهات الدائرة بين «حزب الله» والجيش الاسرائيلي، مثيرة للقلق، من احتدامها، ومن سيل التهديدات الإسرائيلية التي توالت اخيراً بصورة مكثفة قبل ان ينخفض منسوبها في اليومين الماضيين، الّا انّ ما هو أخطر من كلّ ذلك، هو عدوان من نوع آخر يُشنّ على اللبنانيين، من قبل مجموعات أقل ما يُقال فيها إنّها لا أخلاقية ومأجورة، تدّعي التحليل والإعلام والعلم بالغيب السياسي والعسكري، جنّدت نفسها للعبث المتعمّد بأمن البلد واستقراره، وبث سموم التخويف والتحريض والترويج لأكاذيب وسيناريوهات وهمية تزرع الرعب في نفوس اللبنانيين في مرحلة يتفق الجميع على انّها الأخطر في تاريخ لبنان. وهذا العبث الخبيث أكثر فتكاً من الحرب نفسها، وبات يؤكّد الحاجة الماسّة والضرورة الملحّة الى مواجهته بمبيدات قانونية ومضادات حيوية لكبح هذه الأبواق، وتنقية الجسم اللبناني من جراثيم السوء والسوس التي تنخره.
لا سياسة ولا رئاسة
داخلياً، السياسة معطّلة بالكامل، أقصى ما فيها هجومات ومزايدات سياسية على خط المواجهات الدائرة على الحدود الجنوبية، وحكومة تصريف الاعمال تصرف الوقت لا اكثر، ومجلس النواب معلّق انعقاده التشريعي على موانع سياسية، فضلاً عن عدم وجود مشاريع منجزة توجب انعقاده. واما الملف الرئاسي ففي سبات عميق، ولا توجد في أفقه ايّ محاولة جديّة لإيقاظه، لا من اللجنة الخماسيّة ولا من غير اللجنة الخماسية.
حراكات الداخل نعت نفسها، وأقرّت بعجزها وفشلها في دفع الملف الرئاسي الى الأمام جراء ما يعتريه من عقبات وموانع سياسية وشخصية اكبر من قدرتها على حلّها، فيما «اللجنة الخماسية» منكفئة عن القيام بأيّ دور مكمّل لمهمتها، وفي موازاة ذلك، يُبقي رئيس مجلس النواب نبيه بري مبادرته التشاورية مطروحة كسبيل وحيد لا مفرّ منه للحل الرئاسي.
ووفق معلومات موثوقة لـ«الجمهورية» فإنّه خلافاً لما تردّد في الايام الاخيرة عن حركة مشاورات تقييمية بين سفراء اللجنة الخماسية، لا تملك مراجع سياسية على صلة مباشرة بحراكات الخماسيّة من بدايتها، ما يؤكّد حصول هذه المشاورات أو أي مقاربة للملف الرئاسي من قبل اللجنة. وزوار الرئيس بري وقفوا على حقيقة انّه ليس في جوّ هذه المشاورات، بل لم يرد اليه أي شيء من هذا القبيل.
البخاري: المساعي مستمرة
الى ذلك، شدّد السفير السعودي في لبنان وليد البخاري خلال زيارته مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان امس، على «أهمية إنجاز الاستحقاق الرئاسي»، مؤكّداً أنّ «المملكة العربية السعودية حريصة على لبنان وشعبه للخروج من أزماته». واشار إلى انّ «مساعي اللجنة الخماسية لم تتوقف في مساعدة اللبنانيين لانتخاب رئيس وتتعاون مع الجميع من اجل الوصول الى حلول تساهم في إنقاذ لبنان مما هو فيه».
الرئاسة أكثر تعقيداً
إلى ذلك، ووفق معلومات «الجمهورية»، تتقاطع التقديرات والقراءات المرتبطة بالحراكات الرئاسية عند فرضية ترحيل الملف الرئاسي الى مربّعه الأول من جديد، مع استبعاد اعادة تحريكه في المدى المنظور، فلا اتفاق على مرشح او مرشحين، ولا اتفاق على حوار او تشاور او الجلوس لفترة موقتة ومحدودة على الطاولة تحت اي عنوان يفضي الى توافق او لا توافق، ومن ثم الانتقال الى مجلس النواب لعقد جلسات متتالية بدورات اولى وثانية وثالثة ورابعة.
وعلى ما يكشف مطلعون عن كثب على نتائج الحراكات، سواء حراك الوسيط الفرنسي جان ايف لودريان، وما تلاه من حراكات داخلية، فإنّ نقطة التعثّر الاساسية، تجلّت بعدم اجماع من شملتهم هذه الحراكات على الالتزام بنصاب الانعقاد والانتخاب في جلسة انتخاب الرئيس.
ووفق هؤلاء المطلعين فإنّ «القوات اللبنانية» معاكسة للجو الحواري على خلفية انّها لا تريد ان يترسّخ عرف يحكم الانتخابات الرئاسية بشكل عام، واصرّت على موقفها بجلسة مفتوحة بدورات مفتوحة، يُصار الى تشاور بين النواب بين دورة ودورة. واما نقطة التعثر الثانية، فتجلّت في موقف «حزب الله» الذي وإن كان يؤيّد حواراً او تشاوراً يقوده رئيس مجلس النواب وفي مجلس النواب حصراً وليس في مكان آخر لا في سفارة او خارج لبنان، فإنّه لم يحد عن التزامه بدعم ترشيح رئيس تيار «المرده» سليمان فرنجيه، ولم يقدّم التزاماً اكيداً بنصاب الثلثين.
وبحسب المطلعين فإنّ «حزب الله» أبلغ إلى من التقوه في سياق الحراكات، بأنّه اولاً لم يربط ولا يربط الملف الرئاسي وبين المواجهات الدائرة في الجنوب، وثانياً انّه يريد انتخاب رئيس للجمهورية اليوم قبل الغد، وخصوصاً انّه يعتبر أنّه اكثر طرف له مصلحة بأن يكون هناك رئيس للجمهورية، وبالتالي يؤيّد كل مسعى او طريقة تؤدي الى التفاهم على انجاز الاستحقاق الرئاسي. مضيفاً في الوقت نفسه انّ الحزب لا يقبل بأي حال من الاحوال بأن يُصادر حق النواب بالحضور او عدمه، ذلك أنّ تأمين النصاب وعدم تأمين النصاب هو جزء من التصويت، بل هو حق دستوري للنائب الذي له أن يحضر جلسة الانتخاب او يتغيّب عنها ساعة يشاء.
الراعي: المحبة
وقال البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة الراعي في العشاء الخيري لرابطة كاريتاس: «انّ ما نعيشه في لبنان اليوم لا يخيفنا لأنّ رجاءنا اكبر وايماننا اكبر، وبالتالي فنحن نبقى مترابطين متماسكين اكثر فأكثر.. نحن بالصلاة نتلمس وقوف الحرب في غزة وجنوب لبنان وفي كل مكان في الارض لأنّ إلهنا ليس إله حرب بل هو إله سلام ومحبة، وهذه المحبة هي التي نريد ان نعيشها اليوم ونتحدّى بها الواقع المر الذي يمر فيه لبنان».
«الكنيسة في قلوبنا»
من جهته، قال المفتي الجعفري الممتاز الشيخ احمد قبلان في خطبة صلاة الجمعة امس: «لا بدّ من تسوية رئاسية يربح فيها الجميع، والكنيسة في صميم قلوبنا، ولم نخذل المسيحيين ولن نخذلهم، ولكن الشراكة الوطنية تمرّ بتسوية رئاسية تسع الجميع، وطبيعة البلد الدستورية توافقية ولا يجوز القفز فوقها».
الميدان العسكري
ميدانياً، الوضع على الجبهة الحدودية على حاله من التصعيد، حيث كثف الجيش الاسرائيلي من اعتداءاته على المناطق والبلدات الجنوبية، وخصوصاً تلك المحاذية لخط الحدود. فيما نفّذ «حزب الله» سلسلة عمليات هجومية على المواقع الاسرائيلية. وتزامنت التطورات الأمنية مع دعوة وجّهتها الخارجية الاردنية إلى الرعايا الاردنيين بعدم السفر الى لبنان في الوقت الراهن. ومع تأكيد من قِبل الامين العام المساعد لجامعة الدول العربية حسام زكي بأنّ لبنان يشهد تحدّيات خطيرة تهدّد امنه واستقراره، وكذلك امن المنطقة. مشدّداً في ختام زيارته بيروت على انّ الالتزام بالقرار 1701 امر ضروري لاحتواء التصعيد الحالي، معوّلاً على ما سمّاها «حكمة القيادات اللبنانية والوعي التام لخطورة التحدّيات المحيطة بلبنان».
وأفيد أمس عن غارات جوية نفّذها الطيران الحربي والمسّير الاسرائيلي على اكثر من منطقة، وطالت منزلاً من ثلاث طبقات في كفركلا حيث تردّدت انباء عن سقوط 3 شهداء، ومستودعاً لتخزين المواد الزراعية في الوزاني، ومنزلاً في بلدة شيحين قضاء صور. ومرتفعات جبل صافي.
وتزامن ذلك مع قصف مدفعي طال بلدة الوزاني المقابلة لموقع «معيان باروخ» بالقذائف الفوسفورية ما ادّى الى اندلاع حرائق، كما طال القصف معظم البلدات القريبة من خط الحدود.
وفي المقابل اعلن «حزب الله» انّ المقاومة الاسلامية استهدفت تجمعاً لجنود العدو في محيط مثلث الطيحات بالاسلحة الصاروخية، والاجهزة التجسسية في موقع بركة ريشا بالاسلحة المناسبة.
كما اعلن الحزب ان المقاومة الاسلامية استهدفت مبنى يستخدمه جنود العدو في مستعمرة شلومي، وموقع رويسة القرن في مزارع شبعا، وموقع السماقة في تلال كفرشوبا، ونفذت هجومًا جويًا بسرب من المسيّرات الإنقضاضيّة على المقر المستحدث لقيادة كتيبة المدفعية 411 في جعتون، كما استهدفت مقر قيادة كتيبة السهل في ثكنة بيت هلل بعشراتِ صواريخِ الكاتيوشا.، ومبنى يستخدمه جنود العدو في مستعمرة المطلة.
ونعى حزب الله الشهيد مصطفى حسن ياسين.
وأفادت القناة 12 الإسرائيلية، عن «أعداد من الطائرات بدون طيار تتسلل من لبنان تجاه الجليل الغربي». وأكدت وسائل إعلام إسرائيلية، وقوع انفجارات عديدة بالجليل الغربي عقب تسلل عدد من الطائرات بدون طيار، متحدثة عن وقوع أضرار.
لا تريد الحرب
الى ذلك، وفيما نقلت هيئة البث الاسرائيلية عن رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنّه «اذا توصلنا لاتفاق يسمح بعودة سكان الشمال الى منازلهم، يمكننا التوصل الى تسوية»، نقلت صحيفة «يديعوت احرونوت» عن وزير الدفاع الاسرائيلي يوآف غالانت قوله: «إنني قلت للأميركيين لا نريد حرباً في الشمال وسنقبل باتفاق يبقي «حزب الله» بعيداً من الحدود».
ونقلت الصحيفة عن مسؤول اميركي قوله: «أبلغنا غالانت أن واشنطن لن تسمح لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بمواصلة الاستهتار بنا بهذه الطريقة».
بدوره قال عضو مجلس الحرب السابق في اسرائيل غادي ايزنكوت «انّ كلاً من اسرائيل وامين عام «حزب الله» لا يريدان الذهاب الى حرب شاملة لأنّ ثمنها باهظ، ولكن في غياب الحل زاد احتمال نشوبها».
واللافت للانتباه في هذا السياق، ما كشفته صحيفة «معاريف» الاسرائيلية عن «حالة إرهاق جسدي وتعب نفسي بين العديد من الجنود الإسرائيليين بسبب الحرب في غزة»، ونقلت عن ضابط كبير في سلاح الجو الإسرائيلي ومطّلع على تفاصيل الخطط الحربية، بأنّه حذّر في رسالة بعثها إلى أعضاء هيئة الأركان العامة في الأيام الماضية، من «شنّ عمليات عسكرية بأي ثمن»، وطالبهم بالتوضيح للمستوى السياسي أنّ الجيش الإسرائيلي ليس جاهزاً لحرب متواصلة في لبنان، وأنّ شن حرب على لبنان «سيقودنا إلى كارثة إستراتيجية أكبر من 7 تشرين الأول الماضي».
وبحسب الصحيفة فإنّ «الجيش ليس جاهزاً الآن لحرب واسعة في لبنان، وليس قادراً حالياً على تحقيق إنجاز كبير مقابل «حزب الله» وتغيير الواقع في الشمال بشكل دراماتيكي. وفي أفضل الأحوال، حرب في الشمال ستنتهي بتسوية سيئة يتمّ التوصل إليها بثمن مؤلم. وفي حالة معقولة أكثر، لن تنتهي الحرب، وستجد إسرائيل نفسها في حرب استنزاف متواصلة، ستشلّ الحياة في معظم أنحاء الدولة، ومن دون قدرة على الحسم».
وقال رئيس تحرير مركز كارنيغي للشرق الاوسط مايكل يونغ انّه وخلال زيارته إلى الولايات المتحدة الأميركية، سمع وفداً إسرائيلياً نقل عن مسؤولين أميركيين أنّه «في حالة نشوب صراع مع «حزب الله»، فإنّ الأميركيين سيدعمون إسرائيل بالكامل». وقال: «تصريحات إدارة بايدن جزءٌ من حملة إسرائيلية أميركية مُنسّقة لزيادة الضغط على «حزب الله»، ليكون أكثر مرونةً تجاه حلّ تفاوضي عند المنطقة الحدودية، ولاسيما أنّ المسؤولين الأميركيين صرّحوا أكثر من مرّة أنّ أيّ حرب ستكون كارثية على إسرائيل ولبنان». واضاف: «مستوى الترهيب والتهديد الإسرائيلي بشنّ حرب على لبنان وصل إلى مستويات سوريالية، في حين أنّ الجيش
الإسرائيليّ عاجز عن تفكيك قُدرات حركة حماس بعد 8 أشهر من حرب ضدّ قطاع غزّة».
وأقرّت الـ«القناة 14» الإسرائيلية بأنّ حرباً بين إسرائيل و«حزب الله» لن تندلع في المستقبل القريب، مشيرة الى انّ اسرائيل متردّدة في الدخول في معركة ضدّ «حزب الله» بسبب الأثمان التي تنطوي عليها.
واشار الى أنّ المسؤولين السياسيين سيقولون لمستوطني الشمال إنّ «حزب الله» تعرّض لضربة قاسية، وأنّ الوضع على الحدود قد تغيّر جذرياً، وأنّ سيناريو 7 تشرين الأول 2023 لا يمكن أن يتكرّر. بينما في الوقت نفسه، سيُمارس ضغط شديد على المستوطنين للعودة إلى الشمال، من خلال منح مالية كبيرة، سيتمّ اقتصاصها إذا رفضوا العودة.
ولفتت القناة الى أنّه في الوضع الحالي عند الجبهة مع لبنان، نجح «حزب الله» في إخلاء شريط بأكمله طوال الحرب، واضافت: «إذ شعر «حزب الله» أنّه منتصر، فإنّ الحرب القادمة ستأتي قريباً وستكون مختلفة تماماً عن الحرب التي نستعد لها».
وفي تقرير نشرته صحيفة «هآرتس» قالت إنّ قرار شنّ عملية برّية في الشمال سيكون سيئاً. الوضع قاسٍ ومُهين، غير أنّ عملية بهذا الأسلوب قد تعقّده وتفاقمه أكثر. من الصعب رؤية كيفية تحقيق أية فائدة منها.
وسألت الصحيفة: «ما الذي يمكن القيام به في الشمال»؟ وقالت: «حقًا ليس هناك خيارات جيّدة. يجب التوصل إلى اتفاق حول الترتيبات في الشمال وتكثيف جدّي للوسائل الدفاعية حول البلدات وعلى طول الخطّين الحدوديَّيْن، في الشمال وفي الجنوب. صحيح أنّ هذا بعيد عن «الانتصار المطلق»، لكنه على الأقل ليس «الهزيمة المطلقة»، وهي الاتجاه الذي نسير فيه الآن».