رأيتُ في ما يرى النائم حلماً لا ككل الأحلام، حيث وجدتني داخل جسد بورخيس وهو يتنقل من حلم إلى آخر. خلال أولها زار بورخيس، كما يفعل كثيرا، مكتبته البرزخية، وهناك وجد في استقباله كتاباً لم يره من قبل، وتلك هي العادة لو شئنا الدقة، فلا كتاب يصادفه أكثر من مرة (عرفتُ هذا لتمزاج حلمي مع حلمه)، كتاب اليوم (أو الليلة لو شئنا الدقة) هو بعنوان "رجال في الشمس". كان متن الكتاب سؤالاً واحداً فقط، مكرراً في كل صفحاته بلغات لا حصر لها: لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟ثم تغيرت الموجودات، كأنني انتقلت، رفقة بورخيس، إلى حلم آخر له. هذه المرة وجدتني، أقصد بورخيس، في متاهة هائلة. كل منعطف فيها كان خزاناً، وفي كل خزان ثلاثة رجال صامتين. كنت أسمع دقات قلوبهم الواجفة تتردّد في أرجاء المتاهة، لكن صمتهم كان أبلغ.ثم في الحلم الثالث وجد بورخيس نفسه محبوساً في خزان. كان يحاول الدق على جدرانه، لكن يدي (أقصد يده) كانت تخترقها. أدرك بورخيس، وأنا معه، حينها أن الخزان محض وهم، والصمت هو الحقيقة الوحيدة.فتحت عيني وما زال "لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟" سؤالاً يتردد صداه في عقلي، كأنه صدى لا ينتهي لنقر على باب موصد في قلب الليل.لنتخيل الآن، معاً، مشهداً من ألف ليلة وليلة: شهرزاد تروي لشهريار حكاية ثلاثة رجال محبوسين في خزان. هل كانت ستنهي حكايتها بموتهم صامتين؟ أم كانت ستجعلهم يدقون الجدران، فيسمعهم جني طيب القلب، فينقذهم في اللحظة الأخيرة؟ طبعاً كانت ستفعل والحكاية ستكون ساذجة طفولية، على غرار معظم حكاياتها.لكن غسان كنفاني ليس شهرزاد، ورجاله ليسوا أبطال حكايات خيالية. إنهم أشباح الواقع، أرواح هائمة في صحراء التاريخ. صمتهم هو صرخة مكتومة، صدى لصمت أكبر، لصمت عابر للأمكنة والأزمنة.وطبعاً لدينا في التراث الديني قصة يونس في بطن الحوت الذي أراد له النص أن يكون مسبحاً مصلياً في ظلمات ثلاث، ولولا أنه كان من المسبّحين، لَلبِث في بطن الحوت إلى أبد الآبدين. ولدينا حكاية رجل وقع في بئر عميقة في مكان قفر، ولأنه أدرك أن صوته لن يصل إلى أحد قرر الصمت، موفراً أنفاسه الأخيرة للتأمل والصلاة. هل كان رجال كنفاني يتأملون في لحظاتهم الأخيرة؟ هل كانوا يصلون؟ أم كانوا يلعنون؟في المقامة الساسانية، يحكي الهمذاني عن أبي الفتح، الذي يدّعي الموت ليثير شفقة الناس ويقوم شريك له بجمع المال تحت ادعاء نفقات الجنازة والدفن. لكن رجال كنفاني لم يكونوا يتظاهرون. موتهم كان حقيقياً، صامتاً، مخنوقاً كأنفاسهم الأخيرة.ولو عدنا إلى ألف ليلة وليلة سنجد حكاية الصياد والعفريت. العفريت المحبوس في القمقم طيلة مئات وآلاف من السنين، فصار ناقماً على الجميع، يقرر أول ما يقرر عندما يُفتح القمقم أن يقتل منقذه. رجال كنفاني يبدون مثل هذا العفريت، محبوسين في خزان التاريخ. لكن من سيجرؤ ويفتح لهم الباب؟ ومن سيتحمل غضبهم المكبوت لسنوات؟ربما كان صمتهم اختياراً واعياً. صمت من أدرك عبثية الصراخ في عالم أصم. أو ربما لأن الدق سيكون اعترافاً بالهزيمة؟ ربما لأنهم أدركوا أن صمتهم سيكون أكثر دوياً من أي صراخ. أو ربما لأنهم، في لحظتهم الأخيرة، اختاروا أن يموتوا بكرامة الصامتين، تاركين لنا مهمة الدق على جدران التاريخ، مطالبين بإجابة مستحيلة.