2024- 06 - 30   |   بحث في الموقع  
logo احتمالات التسوية جنوباً تزداد ولبنان يحضّر مسودة التجديد لليونيفل logo هذا ما يجري فوق مناطق لبنانية عدة logo حريق في هذه المنطقه ..ومناشدة للدفاع المدني! logo أيمن الحريري عن شقيقه سعد: “”‏Selfless‏”‏ logo إيقاف مباراة ألمانيا والدنمارك في يورو 2024 logo الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل جنديين في غزة logo "للتدخل العاجل"... البحرين تدعو لتجنب التصعيد العسكري بين لبنان وإسرائيل logo "تستحقون التدمير"... كاتس: على حزب الله الإنسحاب من الجنوب
جيل التسعينيات الشعري العربي...من الإسكات والقمع إلى أزمنة الخراب
2024-06-27 12:55:39

كرّست جريدة "أخبار الأدب" المصرية في عددها الصادر قبل أيام (رقم 1612) لجيل التسعينيات الشعري في مصر، فوضعت القارئ المحلي ومعه العربي أمام قصة، اختفت من واجهات عرض الثقافة منذ زمن طويل.

الأمر هنا لا يتعلق بانقضاء التحديد الزمني، فالشعر في أصله ليس سلعة يُكتب عليها تاريخ صلاحية، بل يتصل بأسئلة جاء بها الشعراء الشباب، ممن بدأوا بتقديم نتاجاتهم في ذلك العقد. وهي لم تقف عند حدود المغامرة الشعرية ذاتها، وما تحتويه من اشتغال على اللغة والمحتوى، واختراق للمعتاد، والمواجهة مع الأنماط الأخرى السائدة في عالم الكتابة الشعرية، بل غاصت في عمق الإطار المجتمعي والثقافي السائد من زاويتين. الأولى تنطلق من التفكير بقدرة الجماعة الشعرية على أن تولد في البيئة المعقمة من الحريات، وأن تطرح مشروعها للمتلقين من خلال المنابر المتاحة، من دون أن تضطر للخوض في معركة إثبات الذات، والأحقية بالحصول على مساحة للنشر تقدمها بشكل يليق بها وبالعقول الشعرية الشابة، وهي تحاول إصلاح العالم أو التمرد عليه.
أما الثانية، فتتصل بالأولى وربّما تكون تتمّة لها، وتتعلق بالرؤية المغايرة لما انتهى إليه حال المجتمعات العربية، بوصفها البيئة حيث تبدأ قراءة الشاعر لواقعه، وحياته وآمالها وأحلامه. وفي هذا المسار، كانت الجماعات الشعرية التسعينية العربية تختلف عن بعضها البعض، بحسب الأوضاع التي تنطلق منها في بلدانها.
تغوص "أخبار الأدب" في المختبر المصري للقصيدة التسعيناتية، وتسأل: "ماذا تبقى من جيل التسعينيات؟"، ويمر محرر الملف، الروائي حسن عبد الموجود، على معظم شعراء
الجيل، ويسألهم بدوره السؤال الأول، ويلحقه بسؤالين آخرين يبدوان وكأنهما دعوة للجلوس على كنبة الحقيقة، حيث يتوجب على الشخص أن يعترف بما صنعه، وبما انتهى إليه: "ما الذي انتهى إليه مشروعه الشعري؟" و"هل سقط أم مازال له تأثيره؟".
في القراءة الأولى للملف، لا بد للقارئ الشغوف بالنبض الشعري، أن يستمتع بصنيع الجريدة ككل، فهي تغامر في تذكر تجربة طواها الناس زمنياً، لكنهم لم ينسوها، بل بات من الواجب كشف النقاب عما انتهت إليه، ليس من زاوية النقد، وتتبع آفاق القصيدة الجديدة، وتحديداً قصيدة النثر، بل من منظور أصحابها، بعدما بذلوا سنوات من أعمارهم في سبيلها، وأراقوا حبراً كثيراً من أجل أن يكرسوا أنفسهم وما يعتمل فيهم على بياض الورق.
لكن القراءة الثانية لن تكون مريحة، لا للقارئ، ولا للشعراء أنفسهم، ولا لنظرائهم في المختبرات العربية الأخرى. فمقابل الاستغراق في الشعري والشخصي، وتذكر الحاضرين والغائبين، يلحظ المتلقي المهموم بالواقع الراهن، غياب الحديث عن أثر التغيرات المجتمعية والسياسية والتواصلية في التجربة. أما من يهتم بالبحث في إطار نشأة التجارب الأدبية والفنية التمردية، فإنه لن يجد ضالته في هذا الملف. حيث يغيب تشريح الماضي، ويحل بدلاً منه الاحتفاء الذاتي، رغم أن من دواعي فهم المنتج الشعري الذي قدمه التسعيناتيون أن يرجع المحقّبون إلى حيثيات النشأة، وبناء تصور عن مواجهات ذاتية، عاشها الشعراء مع أنفسهم وكذلك مع ما حولهم.
ضمن هذه الرؤية المتعمقة، يصبح الإشكال بين الأجيال حول بُنية القصيدة مجرد مشكلة تقنية، يمكن حلها، أو تركها قائمة، بينما يتكرس الجهد حول فكرة المواجهة مع جيل مكرس يمتلك أدوات السلطة، ويقوم بقمع الآخرين وإسكاتهم، ويسد عليها ليس النوافذ فقط، بل كل الكوات التي تمكنهم من النشر!
وفي خطف خلفي، للعودة إلى ذلك الوقت، يمكن تذكر عشرات التجارب التي يجب أن تُستعاد، ليقرأها سكان هذا الزمن، لا سيما الشباب منهم، حيث سيكتشفون فداحة العقل الرقابي الذي تحكم بالشعراء في ذلك الوقت، مع ضرورة التذكير أن هؤلاء لم يعيشوا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث كان المكتوبجي العثماني يقرر وحده ما يُكتب وما يُنشر، بل كانوا يعانون في نهاية القرن العشرين، ويواجهون رقابات شتى تقبع في عقل سدنة الثقافة والإبداع.
لم يغب الأمر في الإطار العام، عن محرر الملف، والذي أشار إلى معارك خاضها هؤلاء، في مواجهة الديناصورات من الأسماء المكرسة، لكنه سرعان ما اتهم بعض التسعيناتيين بأنهم تحولوا إلى ما يشبه أعداءهم: "وكما عانى التسعينيون من كراهية الأصنام، لم ينتبه بعضُهم إلى أنهم تحوَّلوا بدورهم إلى أصنام، ترفض الاختلاف، وتكره التفعيلة، والقصيدة العمودية، وترفض وجود السبعينيين والثمانينيين، وانقسم المشهد، بتعبير كريم عبد السلام، إلى صعاليك وأراجوزات ووقحين ومضطهدين وكارهين، بينما هرب الشعراء الجيدون إلى الظل، وفضَّلوا الانعزال على المشاركة في الحرب الطاحنة التي تفتقر إلى الأخلاق".
لكن المعركة في طورها العميق لم تكن مع مجموعة من الأصنام، بل كانت مع عقل صنعها، ونصبها فوق رؤوس المصريين، واستمرت خارج التحديد الزمني للجيل، لتصل إلى جيل الألفية الجديدة، وصولاً إلى جيل الثورات وزمنه المضطرب، فكانت لمصر فيها حكاية مؤسفة، لا يمكن قراءة أي من معطيات الواقع الحالي من دون العودة إليها.
ملف "أخبار الأدب" غير مسبوق، لا لجهة تخصصه في الحديث عن إرث الجماعة الشعرية، بل لفتحه الأسئلة الموازية عن التسعيناتيون العرب، في البلدان العربية كافة، إذ يحتاج هؤلاء إلى مراجعات مع أنفسهم، ومساءلات مع محيطهم لقراءة المنتهى الذي وصلوا إليه. على سبيل المثال لا الحصر، فإن حالة التجربة الشعرية التسعيناتية السورية، تصلح لأن تنطق بما سكتت عنه الجريدة، فهنا جرت الأمور بوضوح قل نظيره، لا سيما لجهة قمع المنابر السلطوية للنص الجديد، فقاموا بالنشر في مجلة "ألف" بأعدادها القليلة، وأخذوا حيزاً في الصحافة اللبنانية، ووجدوا من بينهم وبين أصدقائهم من قام بنشر ملفات عنهم في جرائد مثل "الحياة" و"السفير" وغيرهما! كان لدى الشعراء يقين كامل، بأن نصوصهم لن تجد مكاناً لها، لا في صفحات الجرائد الرسمية، ولا في منشورات اتحاد الكتاب العرب، ولا في مطبوعات وزارة الثقافة.
من أين أتى هذا اليقين؟ لقد جاء من تاريخ البيئة ذاتها، ففي زمن التسعينيات كان جيلا السبعينات والثمانينات أيضاً، يتشاركان مع الجيل الجديد الآمال والطموحات ذاتها، شعراء يحتاجون قبل أي شيء إلى مساحة لكي يظهروا، ومرايا ينظرون فيها إلى أنفسهم، وليعيشوا نرجسيتهم أمام الآخرين.
لن يدرك القارئ الغريب حجم الكارثة التي عاشتها ثلاثة أجيال شعرية، وهي تنتقل بين فضاءات النص الشعري، من القصيدة التقليدية ذات الشطرين إلى قصيدة التفعيلة، وإلى قصيدة النثر، في بيئة يسيطر عليها شعراء ومحررون هم أشبه برجال سلطة وضباط جيوش، اغتنوا معنوياً، وتكسبوا في فضاءات كابوس أمني عاشته البلاد منذ نهاية السبعينيات، فلا يرون أن المواقع والمناصب التي منحهم إياها نظام الأسد تتسع لهم، بل يجب أن تتسع وتؤبّد لهم ولمريديهم، وأن تطحن ماكينة السيطرة هؤلاء الصعاليك الذين يأتون إلى النشر بكلام عادي، غير مفهوم، وبلا وزن أو إيقاع!
هل جرب أحد العيش بلا أمل، في مساحة زمنية غير محددة النهاية، مع أرض رجراجة، لا يمكن لأي كان أن يقف عليها خشية أن تطيحه، وتخسف به إلى العدم؟
في مثل هذا الواقع نشأ الجيل الشعري التسعيناتي السوري، فأنتج أصحابه نصوصاً قلقة، تعيش خوفاً عميقاً، وتحاول أن تتمايز عن بعضها البعض، لكنها في تضاعيفها كانت تبشّر بالخراب، كصورة شعرية أزلية، لا تأتي من الحيز الأسطوري فقط بل تتناسل في الواقع المعاش أيضاً.
ولهذا لم تنتظر مفارقات الواقع كثيراً، فجاء الخراب المُنتظَر، وحمل معه وقائع المجزرة، والمنفى، والسجون، والمقابر الجماعية، وحكايات المخطوفين والمغيبين، والأرامل، والنساء المغتصبات، والمسبيات، وموت الأطفال في طرق الرحيل عن الأوطان وبحار الموت الرهيبة.
وبينما تحول أفراد الجيل مع من جاء بعدهم إلى ثائرين، في مواجهة مؤيدين لنظام الأسد يكتبون التقارير المخابراتية بزملائهم، استعاد شعراء الجيوش والفصائل الجهادية، أبشع أنواع الشعر التقليدي وأكثرها تقعراً، وغابت عن الواجهة بعد سنتين أو ثلاث من عمر الثورة النبضات المختلفة في اللغة، وصار القادمون إلى المشهد يخوضون معارك موازية، تحاول إثبات سيطراتها، فهنا فصيل القصيدة العامودية، وأولئك من فصيل التفعيلة، بينما تحول الآلاف إلى شعراء في صفحات السوشال ميديا، يكررون صوراً متوقعة، بكلمات تأتي من معجم ضئيل ومحدود.
الشعراء التسعيناتيون السوريون ليسوا وحدهم ضحايا الزمن العام الذي عاشوه، لكنهم مثال فاقع الوضوح عما يجب الحديث عنه، بعد أن يتذكر المعنيون الأسماء والتواريخ.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2024
top