2024- 06 - 30   |   بحث في الموقع  
logo احتمالات التسوية جنوباً تزداد ولبنان يحضّر مسودة التجديد لليونيفل logo هذا ما يجري فوق مناطق لبنانية عدة logo حريق في هذه المنطقه ..ومناشدة للدفاع المدني! logo أيمن الحريري عن شقيقه سعد: “”‏Selfless‏”‏ logo إيقاف مباراة ألمانيا والدنمارك في يورو 2024 logo الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل جنديين في غزة logo "للتدخل العاجل"... البحرين تدعو لتجنب التصعيد العسكري بين لبنان وإسرائيل logo "تستحقون التدمير"... كاتس: على حزب الله الإنسحاب من الجنوب
سيرة "ملك القلوب"... دروس د.مجدي يعقوب والخيال والتمرد
2024-06-27 11:55:27

أن تقرأ مذكرات إنسان، وتعايش سيرته الذاتية بعقلك ووجدانك؛ فتجد نفسك بعدها مختلفًا عمّا كنتَ، بطريقة أو بأخرى، لهو أمرٌ مثيرٌ للافتتان والدهشة والتساؤل. وليس فقط الانبهار الطبيعي بالعظماء، هو الذي يُحدث هذا الأثر الكبير لدى قارئ السيرة الذاتية للبروفيسور السير مجدي يعقوب، صاحب أول عملية زراعة قلب ورئة في أوروبا عام 1983، والأكثر من ألف ورقة بحثية رائدة باسمه، والحاصل على لقب فارس عام 1992، ووسام الاستحقاق من ملكة بريطانيا عام 2014..

لكن مبعث الانجذاب الفعلي إلى مذكرات ملك القلوب، كما سمّته صديقته الأميرة ديانا ورفيقته في أعمال الخير والتبرعات، يمكن استشفافه من مفردات العنوانين اللذين صدرت بهما المذكرات، وهما: "جراح ومتمرد.. حياة مجدي يعقوب وأعماله الرائدة" (الطبعة الإنكليزية، عن الجامعة الأميركية في القاهرة، بتحرير الصحافيين البريطانيين سايمون بيرسون، وفيونا جورمان)، و"مذكرات مجدي يعقوب.. جرَّاح خارج السرب" (الطبعة العربية عن الدار المصرية اللبنانية، بترجمة أحمد شافعي).
(مجدي في طفولته في مصر 1941)ففي فصولها الخمسين الموزّعة على أربعمئة صفحة، تفجّر مذكرات المناضل الفذ من أجل العلم والعدالة والإنسانية والمرضى الفقراء، دروسها الخاصّة، السحرية والسرية، المشحونة بالإبداع والابتكار والطليعية والنسج على غير منوال، والتفكير خارج الصندوق. وهي دروس تتضمن في قائمة أولوياتها واهتماماتها: التمرد، والتفرد، والإرادة، والتحدّي، والخيال، والجرأة، والمغامرة، والمخاطرة، والتسلح الدائم بالأمل والعمل والحُلم العريض؛ لتخطّي المعاناة، وتجاوز الصعاب، وتحطيم القيود.
بهذه السمات، تصير رحلة حياة عالِمٍ رصينٍ، بمحطاتها المتتالية في مصر وبريطانيا والولايات المتحدة، سرديةً تخييليةً بامتياز. ولولا أن سلسلة منجزاته الخارقة مسجّلة وموثقة ومصوَّرة، لاقتربت في بعض تفاصيلها من أدبيات الملاحم والأساطير. ويصوغ يعقوب استنباطاته للولوج من الأبواب المغلقة "التركيز هو المفتاح، فإياكَ أن تفقد التركيز. ولا تُحِدْ عينيك عمّا أنت راغب في تحقيقه. وتعريفي الخاص للنجاح هو أن تحاول أن تعثر بدقة على ما تريده من حياتك، ثم تشرع في تحقيقه بدأب وجلد. والنجاح نسبي، ولا تعريف له إلا تعريف كل فرد له".
من محنة شخصية حدثت لعائلته عام 1940، تشكلت بذرة الطموح الأولى، التي لم تتوقف ليومنا هذا عن الإثمار. كان ابن مدينة بلبيس في محافظة الشرقية بدلتا مصر، المنتمي إلى عائلة متوسطة الحال من الأقلية القبطية، في الخامسة من عمره، عندما توفيت عمته ذات الاثنين وعشرين ربيعًا بسبب تضرر صمامها التاجي إثر إصابتها بروماتيزم في القلب. ولم تفلح محاولات أبيه الطبيب الجرّاح الحكومي ورفاقه من المختصين في إنقاذها، إذ لم يكن هناك علاج ناجع لهذه الحالة وقتها. ويعترف مجدي بأن وفاة الشابة "يوجين" ملأت نفسه إصرارًا، فعقد العزم منذ صغره على أن يصبح جرّاح قلب، ويوجد علاجات لأمراض القلب المستعصية.
وبقدر ما تتكدس المِحَن والمآزق والتحدّيات والمواقف الصعبة في حياة يعقوب، بقدر ما يزداد إصرارًا على المواجهة، وإذابة المستحيل بحلول غير تقليدية. هكذا تؤكد دروس الخيال والتمرد والمغامرة في سيرة "البروف"، الأيقونة العلمية بفتوحاته الطبية، والرمز الأخلاقي والإنساني بإسهاماته التطوعية الكبرى في المؤسسات غير الربحية والعلاجات المجانية بمصر وبريطانيا ودول أخرى كثيرة في إفريقيا وسائر قارّات العالم.
ولم تكن أزمة واحدة وراء اتخاذ مجدي يعقوب قراره الأهم في حياته كطبيب شاب بالرحيل إلى بريطانيا عام 1961. وثمة قصة شائعة بأنه رحل بسبب ما كان يُمارس في ذلك الوقت ضد الأقباط من تحيّز بشكل عام، وبشكل خاص في مراتب الطب العُليا في مصر. ولكن مجدي ينفي سقوطه في براثن اليأس بسبب هذا التمييز ضد الأقباط، موضحًا أن إحباطاته ودوافعه للهجرة لها خلفيات أخرى.
فمن جهة أولى، فإنه تأثر جدًّا بوفاة والده عام 1959 بعد صراع مع ضغط الدم والسكري والفشل الكلوي والسكتات القلبية، ولم يكن باستطاعة مجدي الراغب في أن يكون جرّاح قلب وأوعية دموية أن يمد له يد العون، فسيطر عليه حزن عظيم.
ومن جهة ثانية، لعلها الأهم، فإن "مصر/ عبد الناصر" قد دفعت الطبيب النابغة إلى مغادرة بلاده باكراً، وذلك بسبب الدعائية والسذاجة في تطبيق فكرة مجانية التعليم الجامعي، ما أدى إلى نتائج عكسية كارثية. ويصف مجدي نفسه بأنه رجل سعيد الحظ، لأنه رحل في الوقت المناسب بعدما عرف كلية الطب في القاهرة بضع سنوات خلال عصرها الذهبي.
(يتلقى وسام الاستحقاق من الملكة اليزابيث 2014)أما انحدار الكلية في العهد الناصري، فيلخصه يعقوب "حاول عبد الناصر أن يتيح التعليم للجميع، فتهاوت من جراء ذلك المعايير، وإذا بحل عبد الناصر يُجهض التميُّز. كان تعليم الطب في القاهرة رائعًا، فقوام كل دفعة من الطلبة كان ستين طالبًا فقط. ولكن عبد الناصر قال إن التعليم الجامعي حق للجميع، وفتح البوابات بغتة على مصاريعها، فتدفقت الجموع. وإذا بنا بعد أن كنا ستين طالبًا نصبح ألفًا. وإذا بالطلبة يتدلّون من الأسقف، يحاولون أن يتسمّعوا إلى ما يقوله المحاضرون، فلم يبق للجودة والتميز من مجال".
لم يكن لمجدي، فيلسوف الإرادة والاجتهاد، أن يبقى في بيئة عقيمة كهذه، وهو الساعي إلى العبور إلى النجاح، ولو من ثقب إبرة. وفي مناخ يقدّر العلم والعلماء، في مستشفى هيرفيلد ببريطانيا وكلية الطب بجامعة شيكاغو الأميركية، لم يهدر أي وقت، إلى درجة أنه كان يكتفي بالنوم لساعات قليلة يوميًّا تقل عن خمس، منطلقًا صوب الإجادة وتراكم المعرفة والبحث عن الحقيقة من خلال العلم والتجربة، ثم الريادة في الطب الحيوي.
وفي هذه الأجواء الغربية المتفتحة، ظل يعقوب أيضًا على نهجه في الخروج عن السائد والمألوف، مواصلًا دروسه المثيرة في الخيال والابتكار والتمرد والمغامرة إلى حد المخاطرة. وأدت أبجدياته الغرائبية وتقنياته المستحدثة إلى اصطدامه في بعض الأحيان بالمؤسسة الطبية البريطانية، وإشعال الجدل في الأوساط العلمية والإعلامية.
ومن تلك العواصف التي فجّرها مثلًا، زراعته قلبًا للطفلة "هولي روفي"، البالغ عمرها عشرة أيام فقط، عام 1984، أملًا في إنقاذ حياتها، لمعاناتها الخِلقية من متلازمة القلب الأيسر. وكان الرأي الطبي الغالب مستقرًّا على أنها يجب أن تُترك إلى أن تموت بهدوء، لليأس من إمكانية شفائها. ورغم نجاح عملية يعقوب، فقد توفيت الطفلة بعد حوالي عشرين يومًا منها، ما أثار الانتقادات ضدّ محاولته منحها قلبًا جديدًا، وفي الوقت نفسه فقد وجد الجرّاح المصري من يناصرونه ويتحمسون لتجربته.
وتجسّد تلك الواقعة فلسفة يعقوب في صياغة مستقبل جراحات القلب، ومستقبل الطب عمومًا في العالم. ومن مبادئ هذه الفلسفة "الحيلولة دون اعتراض المشاعر الصرفة طريق التقدّم، لأن من يرغب في إنقاذ حياة عليه ترتيب الأولويات، وإرجاء الحزن". ومن مكاسب عملية هولي روفي أنها أظهرت أن الزراعة للأطفال ممكنة، وأدت إلى تغيّر حالة الطفلة المحتضرة إلى الأفضل، وميلاد أمل إنقاذها، وليس إطالة عذابها.
وهكذا، تقود السطور الخفية في سيرة مجدي يعقوب إلى بلورة نظريته في التجديد الطبي والعلمي في وقت واحد، ذلك أن "البحث الناجح قادر على مساعدة ملايين البشر"، وإجراء عملية لشخص واحد يحل مشكلته وحده. أما الأثر الأعظم فهو "الوصول إلى المشكلات الأساسية للمريض، وحلها بطريقة يستعملها العالم كله".
ولقد تبدلت بالفعل حياة الملايين في العالم كله بفضل برنامج طموح للزراعة ظل يكبر في وحدة القلب في مستشفى هيرفيلد، ومعه يكبر يعقوب ومعاونوه وتلامذته، من المستمتعين بالنشاط والإثارة، والحلول البعيدة المدى، وكسر أفق التوقع في فهم الطب ومزاولته، وممارسة الحياة عمومًا.
ولقد سأل أندرو، ابنُ مجدي يعقوب، أباه ذات يوم "ما سر إصرارك على الإفراط في العمل، والسفر في العالم بجنون، وإحراق كل شمعة من طرفيها؟!"، فردّها له الأب "لأن أي شيء أقل من ذلك سيكون عاديًّا، وأنا لا أحتمل أن أعيش عاديًّا".


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2024
top