2024- 06 - 29   |   بحث في الموقع  
logo السعودية تدين قرار توسيع الاستعمار في الضفة الغربية logo إيران تتوعد: المقاومة سترد على أي اعتداء عليها في المنطقة! logo "حارس بكركي" يدخل على خطّ "التبريد"… ويكشف رفض الراعي لطلب "غربي" رفيع المستوى! logo مسيرة تستهدف سيارة في خربة سلم logo “حزب الله” يستهدف دبابة ميركافا وآلية نميرا logo الجميّل: الحل بالصمود في وجه من يحاول تغيير هوية لبنان ويضعنا في محور مع إيران logo السيسي وفون دير لاين: حل الدولتين السبيل الأمثل لضمان الاستقرار المستدام في المنطقة logo بالفيديو: 7 خطوات لاستعادة الودائع... هل يستحيل اتخاذها؟
تشومسكي: علاقة غير ودّية مع فرنسا
2024-06-25 14:08:27

لم يبق من الرجل سوى إشارات بسيطة من يده التي يحرّكها بعُسر. وعلى رفيقتِه البرازيليّة فاليريا أن تَفهم معنى تلك الحركة وأن تؤوّلها التأويل الصحيح. لكن كيف سنؤوِّل، نحن المتابعين العرب، مثلَ هذه الإيماءات حين يتعلّق الحوار بغزّة وما يجري فيها من إبادةٍ جماعيّة منذ أكثر من ثمانية أشهر؟ هل سنَفهم حركات اليد على أنّها إدانة صارخة لما تقترفه إسرائيل من جرائم، في تجانس تام مع ما عُرف عن هذا المفكّر الموسوعي من مواقف مُندّدة بهذه الدولة التي عاش فيها ردحًا من الزمن؟ أم نعتبرها إشارة إلى "تفهُّمه" حقَّ إسرائيل في الانتقام بعد هَجمات السابع من أكتوبر التي هزّت أركانَها؟
مهما كان المعنى الذي سنضفيه على "خطاب" يده، فإنّ ما لا شك فيه أنّ تشومسكي، الذي شاع قبل أيام نبأ وفاته، ثم تم نفيه، كان من أعتى الناقدين للسياسة الخارجية الأميركية، وندد بتواطؤها في المجازر، بدءاً من فيتنام والعراق وأفغانستان وصولًا إلى سوريا وفلسطين، وبازدواجية المعايير التي ميّزت مواقفها في المحافل الدولية. كما لا شكّ في أنّه كان ليوجِّه أقسى عبارات الإدانة ضدّ تلاعب قادة هذه الدولة وأجهزتها الإعلامية والديبلوماسية بكل القيم الإنسانية من أجل قتل الفلسطينيين والتبرير لهذا القتل. وهو يعلم، كما يعلم الجميع، أنّه لولا الدعم الأميركي، لما تمكّنت "دولة الحرب" العبريّة من الصمود يومًا واحدًا. في فرنسا، ظهر نبأ وفاته ثم تكذيبه في إيجاز شديدٍ، ومرّ الخبران مرورَ الكرام، مما وشى بعلاقة غير ودّية للغاية مع هذا الفيلسوف رغم ضخامة إنتاجه، مما شَرَّع السؤال عن طبيعة هذه العلاقة وتاريخها. ومن خلال مراجعة هذا التاريخ، اتضح أنّ تشومسكي زار باريس العام 2010، كما زارها العام 2016 لتسلم جائزة "الجمعية الدولية للفيلولوجيا". وفي المناسبتيْن، ألقى محاضرات حول "الألسنية التوليدية" عفوَ البديهية. وألغيت في البرلمان الفرنسي حفلة تكريمية للمفكر الأميركي بعدما كان من المقرر أن يتسلم ميدالية من جمعية "المجتمع الدولي للفلسفة" وذلك تحت قبة الجمعية الوطنية (البرلمان)، هذا وعاد تشومسكس فتسلم الميدالية في مركز "ألوالون" في باريس، حيث ألقى محاضرة حول "الأزمات في عالمنا المعاصر". كما أن زياراته لم تُعطَ أيَّ بعدٍ احتفائيٍّ، فضلاً عن "بيانات" استهجان كَتَبها بعض أساتذة الجامعات الفرنسيّة مؤكّدين أنّ "كلامَه غير مثير للاهتمام" و"لا يمكن أن نتعلَّمَ منه شيئًا ذا بالٍ". والحقُّ أنّ مواقف تشومسكي إزاء المحرقة والناقدة للتضليل الإسرائيلي والهيمنة الأميركية هي التي دفعت مثقفي فرنسا لتهميشه، إضافة إلى مقولاته عن الإمبريالية ودعوى "التفوّق" فضلاً عن شعار "الاستثناء الثقافي" الفرنسي، فقد نسفها عبر التدليل على أنّ مقولات بني الإنسان كلها متساوية ولا فرق فيها إلا من جهة "الكفاءة" التي تحول تلك المبادئ الكونية إلى خطابات فرديّة منجزة. كما وجّه سهام نقده اللاذعة لدعوى "التميز الثقافي" التي ليست اعتبرها مركزيّة أوروبيّة مقنّعة وتضخيماً للذات لا يفرز إلا ازدراء "بقية العالم" وإقصاء الثقافات الأخرى واعتبارها "خارج التاريخ"، كما جاء صراحةً في أحد خطابات الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي.ولا ننسى أنّ إطلالات تشومسكي على فرنسا كانت على إثر فترات أزمة خانقة، سواء سنة 2010 حين تهاوى الاقتصاد وازدادت حدة البطالة بشكل مروّع، أو سنة 2016 في أعقاب سلسلة أعمال إرهابية طاولت قلب الجمهوريّة. وقتَها لم تكن كتابات تشومسكي مرحّباً بها لأنها تنكأ الجراح. أخيرًا، قد تكون الطبيعة المجردة لأعمال تشومسكي الألسنية، والتي يصلها بالبُنى الذهنية وبالمقولات الكونيّة، السبب في عدم شيوع نظرياته وضعف تأثيرها في حقول العلوم الإنسانية الفرنسية، على عكس الأعمال الدلائلية، مثلاً، التي صاغها فرنسوا راستي، وبدرجة أقل التداولية كما أذاعها جون اوستين. إذ لم تحدث أفكاره والوقائع التي حللها، "الثورة المعرفية" المأمولة التي توقعها صديقه وطالبُه بيار بيكا، الباحث في CNRS مركز البحث العريق بفرنسا. تشومسكي الذي تقتصر اليوم كفاءته على تحريك يده، بعد تأليفه عشرات الكتب، جدير بأن يُهتم بتأويل أية إشارة تصدر عنه لأنه من القلة القليلة التي وظفت مجال اختصاصها الدقيق، الألسنية التوليدية، في نقد الديمقراطية الأميركية وأدوات هيمنتها على العالم؛ مما أفضى إلى "أمْركة العالم"، بحسب المفكر السوري مطاع صفدي. ومن المعلوم أنّ انتقاله من اللغويات إلى السياسة مرّ عبر تحليل الخطاب ووحداته الدنيا وعلاقة كل وحدة، لا سيما التراكيب، بإدراك العالم الخارجي، وهو ما مهّد الطريق لنقد الخطاب نقدًا منطقيًّا والتصدي لتعرية تناقضاته الداخلية، وهي التناقضات التي لمسها في السياسات الأميركية الخارجية وفي أعمال القمع الإسرائيلية. ولئن كان الرجل موسوعيًّا في أعماله، يتجوّل بين ميادين المنطق واللغويات والرياضيات والاجتماعيات وعلوم السياسة، فإن محاضراته وطريقة تحليله ظلت ألسنية بالأساس، ومتأثرة بمقولات البنية والتجريد والعلاقات الخلافية وغيرها.ورغم الغموض الذي يكتنف بعض كتاباته ويجعلها "حمّالة أوجه"، حتى اتهمه البعض بأنه لم يغادر قط صهيونيته، فإنّ هذا المفكر بإرثه الثري حقيق بالنشر والمناقشة والتطوير في قطاعات مستحدثة، كالذكاء الاصطناعي والترجمة الآلية والتحليل البنيوي للخطاب. وأما في وطننا العربي، فيمكن أن نعتمد على هذا الإرث من أجل بناء خطابٍ نقديٍّ متماسكٍ حول الغرب يعرّي تناقضاته بشكل نسقي مُوثّق ومتوازن، بعيدًا من الشتائم الجاهزة. ولعل لفكره أن يشيع لدينا خطابًا برهانيا ينسف أيديولوجيا الهيمنة الغربية التي فضحتها حروب غزة. نفهم إيماءات يده المرتعشة على أنها صرخة إدانة مدويّة في وجه الغرب وإسرائيل: أنْ كُفّوا عن إزهاق الأرواح ورسم "الديمقراطية" على أكفانها.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2024
top