لا يرتاح بعض الشعراء العرب من السفر. يقضي جزءا مهما من وقته، متنقلا بين المهرجانات، التي باتت منتشرة على مساحة الكرة الأرضية. حتى صار بعضهم لا يستطيع تلبية كل الدعوات، يشارك خلال هذا الشهر في مهرجان دولي في الهند، وفي الشهر الموالي في إيران، ومن ثم إلى تركيا والعالم العربي وأوروبا وأميركا اللاتينية. ومن بين مفارقات هذا الوضع، أن ينعقد مهرجانان دوليان للشعر في الاسبوع ذاته، في بلدين شبه جارين، كما حصل نيسان الماضي، في كل من تونس ومراكش. وقد مر الحدثان من دون أي صدى، على أي مستوى من المستويات، باستثناء بعض الصور الشخصية، التي جرى نشرها على صفحات فيسبوك.
ثمة ما يشبه طفرة، في الأعوام الأخيرة، على صعيد المهرجانات المخصصة للشعر، رغم تراجع عدد القراء، وكساد كتب الشعر. ولا يقتصر ذلك على مهرجان واحد في البلد الواحد. بل تعددت المناسبات والأماكن بين المدن وحتى القرى والأرياف. بعضها للاحتفال بعيد الشعر، وآخر بمناسبة معينة، وصار أغلبها يتم في صورة دورية. ومن أجل حجز مقعد للمشاركة في هذا النمط، تتدافع فئة من الشعراء كي لا تغيب عن المنابر.
أغلبية المهرجانات تستقبل شعراء عربا يتكررون، ومع الوقت تحولت إلى مناسبات للتلاقي وتجديد الصلات بين الزبائن، ورغم تعددها وانتشارها، لم تخرج منها قصيدة تثير ضجة، أو تنعقد ندوة ذات فائدة على الثقافة العربية، وبالتالي صارت تنتهي، وكأنها لم تنعقد، ولولا وسائل التواصل والصور التي ينشرها بعض المشاركين، لما سمع بها أحد. وهنا أضرب مثالا على مهرجان المربد في العراق، الذي تأسس عام 1971، وشكل ظاهرة بارزة على مستوى الحركة الشعرية العربية، ولكنه فقد بريقه منذ عدة أعوام، ولم يعد يثير نفس الاهتمام. ينعقد ويختتم، من دون أن يدري به أحد. وذلك لأسباب معروفة صارت مملة لكثرة تكرار الحديث عنها، وهناك قدر من الانتقادات، التي لا يستمع إليها، أو يأخذ بها أحد، لأن الثقافة العربية صارت هما ثانويا، ولم تعد شاغلا أساسيا في الحياة العربية، التي تقتات اليوم على القشور.
ساهمت بعض المهرجانات في ترويج بعض الأسماء، وباتت سبباً في شهرة أسماء بعينها، لا حضور لها على الساحة الشعرية العربية، لكنها جعلت منها ذات شهرة كبيرة في لغات أخرى، وبعض هؤلاء يتم تقديمهم على أساس أنهم آخر، ما انتجه الشعر العربي. وما كان لهذا الأمر أن يتم لولا الترجمة إلى لغات أخرى، وهذه العملية ليست منزهة تماما عن تبادل المصالح، ويكفي تأمل المشهد قليلا حتى تتضح التقاطعات بين الشاعر والمترجم والناشر، ونوعية الخدمة، أو المقابل الذي يقدمه كل طرف للآخر، وخاصة من قبل بعض القائمين على صفحات ثقافية، الذين يستثمرون المواقع التي يشغلونها من أجل خدمة أنفسهم على نحو صريح، وقد أنتج هذا السلوك المنحرف حالة من الفساد لم يسبق للثقافة العربية أن شهدتها في الخمسين عاماً الماضية. وهذه هي المرة الأولى التي نلاحظ تشكل شلل متعددة المصالح، تتحكم بالمشهد، تفتح الباب لمن تشاء، وتوصده أمام من لا ينتمي إليها، وهذا هو سر تكرر الوجوه في أكثر من مهرجان ومعرض كتاب ولجنة تحكيم لجائزة. وبات من الصعب على شاعر مستقل أن يشارك في مهرجان، أو يترجم عمله، أو أن يحصل على جائزة.
المفروض أن المهرجانات منصات لها هدف محدد يتوخى تقديم الشعر والشعراء، وزاد على ذلك الحفاظ على مكانة الشعر، بعد أن تدنى الاهتمام به من قبل دور النشر ووسائل الإعلام والمؤسسات الثقافية. وعلى هذا ينتظر منها أن تهتم بجديد الشعراء المعروفين، وإفسام المجال أمام الأسماء الجديدة كي تقدم ما لديها، ولكن للأسف ليست هذه هي القاعدة المعمول بها. وصارت أغلبية المهرجانات العربية والدولية، تدور في حلقة مفرغة، مكرسة لتكريس المكرّس من الأسماء، وفشلت عدة محاولات من أجل الخروج عن هذا النمط، والسبب في ذلك هو أن القائمين عليها، لا يقدّرون الشعر والشعراء، ويتعاملون مع المناسبة على أساس حاسبات ذاتية.
هذا هو الحال. ومع ذلك لا يكف البعض عن طرح السؤال حول سبب تراجع حضور الشعر في حياتنا العربية. لا أحد يعترف أن أصل المشكلة هم أهل الشعر أنفسهم، الذين ابتذلوه إلى حد الإشفاق.