عقد "منتدى بطرسبورغ الإقتصادي الدولي" دورته السنوية السابعة والعشرين بين 5 و8 من الشهر الجاري. وعلى الرغم من الحرب التي تخوضها روسيا ضد "الغرب الجماعي" في أوكرانيا، والعقوبات الإقتصادية الغربية ضدها، والعزلة الواسعة المفروضة عليها، لا تزال تعتبر دورات هذا المنتدى الحدث الإقتصادي السنوي الأهم. كما لا تزال تبني عليه آمالاً عريضة ليس في تطورها الإقتصادي فحسب، بل وتحمله مهمات جيوإستراتيجية، كما يتبين من القضايا التي طرحتها للنقاش في الدورة الحالية. فالدورة الحالية تجري تحت عنوان" أساس التعددية القطبية هو تشكيل مراكز نمو جديدة"، ومدعوة لبحث في أربعة إتجاهات: الانتقال إلى نموذج متعدد الأقطاب للاقتصاد العالمي، أهداف الإقتصاد الروسي ومهماته، التكنولوجيات التي تضمن تبوء مركز الريادة. ويتضمن برنامج الدورة نقاش حوالي حوالي 150 مسألة ضمن الإتجاهات الأربعة هذه، والتي تتوافق مع الأجندة الجيواسترتيجية الروسية الداعية إلى إنهاء تفرد الغرب في قيادة العالم، وبناء عالم متععد الأقطاب.
المشاركة في المنتدى لا تقتصر على الدول والشركات ورجال الأعمال الأجانب فقط، بل وتشارك فيه الأقاليم الروسية وكبريات شركات الدولة ورجال الأعمال والأوليغارشيين الروس أيضاً. وتشير قائمة المشاركين الروس هذه السنة إلى حضور عدد من أبناء كبار قادة الدولة ورؤساء الشركات الرسمية والأوليغارشيين، بمن فيهم إبنتا بوتين وإبنة وزير الدفاع السابق سيرغي شويغو، مما دعا البعض إلى وصف هذه الدورة بأنها دورة توريث ثروة الدولة.
الجديد في الدورة الحالية للمنتدى بعد غزو أوكرانيا، كان لقاء بوتين مع كبريات وكالات الأنباء الغربية، والذي عقد في نهاية اليوم الأول من المنتدى. وقال الناطق بإسم الكرملين دمتري بيسكوف بأنها المرة الأولى منذ سنوات التي يلتقي فيها بوتين على هامش المنتدى مع ممثلي وكالات أنباء "الدول غير الصديقة". وقال بيسكوف بأن من المهم بالنسبة لممثلي هذه الوكالات أن يتعرفوا على بوتين ويفهموه بشكل مباشر، وأن يفهموا روسيا. وأضاف "هذه فرصة فريدة بالنسبة لهم ولذلك نتوقع إجراء محادثة ممتعة للغاية".
في رده على سؤال ممثلة وكالة رويترز عن من يفضل أن يرى في منصب الرئيس في الولايات المتحدة في ظل الحرب الأوكرانية، قال بوتين بأن الأمر لا يهمه بشكل عام. وتوجه إلى ممثلة الوكالة بالقول أنها لا بد أن توافقه بأن لا أحد في الولايات المتحدة تعنيه أوكرانيا. ورأى أن الولايات المتحدة تعنيها عظمتها، وهي لا تقاتل من أجل أوكرانيا والشعب الأوكراني، بل من أجل عظمتها وريادتها في العالم. وهي لا تريد أن تسمح بأي نجاح تحققه روسيا لأنها تعتبر أن ذلك سيلحق ضرراً بزعامة الولايات المتحدة.
في سياق رده على سؤال رئيس تحرير الأنباء الأوروبية في وكالة "فرانس برس" عن الخسائر وسط الجنود الروس في الحرب الأوكرانية، قال بوتين بأنهم لا يتحدثون في الأمر أبداً، لكن حين يتحدثون يشوهون الأرقام. لكنه أعلن أن الخسائر الروسية هي ب"مرات أقل من الأوكرانية"، وقال بأن النسبة هي واحد إلى خمسة تقريباً، ولذلك يحاولون في أوكرانيا إعلان التعبئة العامة، حسب صحيفة Novaya الروسية المعارضة التي تصدر في أوروبا.
في سياق نص طويل تحدثت الصحيفة المذكورة أيضاً عن أحد المعروضات في الدورة، والذي لا علاقة له بما عرضته كبريات الشركات الروسية الصناعية ومنجزات الأقاليم الروسية. فقد عرضت الشركة الروسية المتخصصة بالبحث في شجرة أنساب الأشخاص والأسر "بيت التقاليد العائلية ــــ Christian" شجرة نسب بوتين. وطلب إجراء البحث بنسب بوتين إبن عمه ألكسندر الذي ذكر أن اصول الرئيس تعود إلى شريحة الفلاحين الإجتماعية في منطقة قريبة من موسكو. وليس من جديد في الأمر، إذ أن الشركة عينها كانت قد قامت بتتبع شجرة عائلة الرئيس، ونشر البحث في كتاب "أصل الرئيس فلاديمير بوتين" العام 2015.
وثيقة نسب بوتين لم تأت على ذكر إبنتيه اللتين حضرتا للمرة الأولى الدورة الحالية للمنتدى بصفتيهما من أسرة الرئيس. ونقلت الصحيفة عن Bloomberg قولها بأن المنتدى يتحول أكثر فأكثر إلى "واجهة لأبناء نخبة الكرملين" في ظل غياب المستثمرين الغربيين. فإلى جانب إبنتي بوتين حضرت الدورة الحالية إبنة وزير الدفاع السابق سيرغي شويغو، إبن مدير ديوان الرئاسة أنطون فاينو، إحدى بنات قريب لبوتين التي تترأس مؤسسة "المدافعون عن الوطن" وإبن أحد رجال الأعمال الصديق لبوتين.
بعد غزو أوكرانيا شتاء العام 2022، تحول المنتدى برأي العديد من المتابعين الأجانب لهذا الحدث السنوي إلى منتدى داخلي، حيث قاطعه المسؤولون وكبار رجال الأعمال والشركات الغربية الكبرى. ولفت إنتباه المراقبين أن المشاركة بأعمال المنتدى، إضافة إلى غياب المسؤولين ورجال الأعمال الغربيين، إقتصر الحضور الأجنبي فيها على رئيسي زيمبابوي وبوليفيا ووزير خارجية هنغاريا. وغياب الغرب عن المنتدى دفع موقع Fontanka الروسي الذي يصدر في مدينة سانت بطرسبورغ إلى عنونة نصه بشأن الحدث وحضوره "الغرب لم يعد أحداً بالنسبة لنا". وأصبحت مشاركة ممثلي طالبان في أعمال المنتدى أمراً إعتيادياً (ترفق المواقع الروسية ذكر المنظمة بإدراجها من قبل الأمم المتحدة على قائمة المنظمات الإرهابية). وكانت سلطنة عُمان هي البلد الضيف على المنتدى هذه السنة، حيث أن روسيا تختار سنوياً بلداً معيناً كضيف على المنتدى توليه الأولوية في تطوير العلاقات معه.
الحدث الأبرز في أعمال دورات المنتدى يتمثل عادة بحضور الرئيس الروسي الجلسة العامة للمشاركين في أعمالها وإلقائه كلمة عن الوضع الإقتصادي الروسي واتجاهات تطوره وعلاقاته بالإقتصاد العالمي. كلمة الرئيس الروسي في الدورة الحالية للمنتدى، والتي ألقاها في 7 الجاري، ناقشها موقع الخدمة الروسية في "الحرة" الأميركية مع البوليتولوغ الروسي Mikhail Komin. عنون الموقع نصه بالقول "منتدى خانق"، وتقل عن بوتين قوله في كلمته بأن هناك سباقاً حقيقياً لدول العالم لتعزيز سيادتها، "إنه يعتزم إنقاذ العالم". وقال الموقع بأن بوتين الذي لوح بالسلاح النووي في لقائه قبل يومين مع ممثل وكالات الأنباء العالمية، قرر في كلمته أن يظهر بصورة الرجل المسالم، على الرغم من إشعاله حرباً تدور للسنة الثالثة.
عن سبب إنتقال بوتين السريع من مناهض للإستعمار وملوح بالسلاح النووي إلى موقف إيجابي، نقل الموقع عن البوليتولوغ قوله بأن بوتين يقدم للروس الآن وعوداً وتمنيات إيجابية، لأن لا شيئ آخر يقدمه لهم. ويقول Komin أن المنتدى الإقتصادي كان موقعاً مهماً تناقش فيه ضمانات ما بوسع الحكومة الروسية تقديمه للبزنس الأجنبي. في السنوات الأخيرة تضاءل وجود البيزنس الأجنبي، والإستثمارات لم تعد تدخل روسيا، وتلك الموجودة في روسيا هي إستثمارات الدولة. ويبدو له أن التأرجح بين إهتمام الدولة الإجتماعي وبرنامج البيزنس انتقل في السنوات الأخيرة لصالح البرامج الإجتماعية.
أشاد البوليتولوغ بشجاعة أحد مديري جلسات المنتدى الذي سأل بوتين ما إن كان صحيحاً بأن النموذج الإقتصادي السياسي السائد في روسيا الآن هو الرأسمالية الإجتماعية الإستبدادية. ورأى Komin أن مدير الجلسات الذي طرح السؤال على بوتين هو بوليتولوغ، إذ من الصعب تعريف النموذج السائد في روسيا الان على نحو آخر. وتذكر الرجل أن روسيا في السنوات الأولى من حكم بوتين كانوا يصفونها بالديموقراطية السيادية، لكنهم لايخجلون الآن من إستخدام تعبير الإستبدادية في تعريفها.