لا شك في أن هناك علاقة بين العنف والسياسة، فالعنف يعني استخدام القوة بغض النظر عن شرعية استخدامها، والسياسة هي علاقة بين حاكم ومحكوم وهي السلطة الأعلى في المجتمعات الإنسانية وتحظى هذه السلطة بالشرعية حيث السلطة السياسية تعني القدرة على جعل المحكوم يعمل أو لا يعمل أشياء سواء أراد أو لم يرد.
تعتبر السياسة إحدى أهم ادوات إدارة الازمات وحل المشاكل سواء على المستوى الوطني او العالمي هذا وتعتبر السياسة إحدى ادوات الوصول الى السلطة وبأي ثمن من خلال حملات التضليل والترويج لسياسة معينة او استعمال اسلوب التخويف من سياسة الخصم او العدو.
في أستراليا وقعت هذا العام عدة حوادث عنف وهناك ظاهرة العنف المنزلي او الأسري والتي ذهب ضحيتها قرابة 30 امرأة منذ بداية العام اي بمعدل امرأة كل 4 ايام وهذه الظاهرة ليست جديدة وإن ازدادت حدة هذا العام.
الحكومة الفيدرالية الحالية ومنذ عامين كانت قد رصدت مبلغ أكثر من 2 مليار دولار للحد من هذه الظاهرة وزادت عليهم قرابة المليار مؤخراً بعد اجتماع المجلس الوزاري الوطني الذي يضم حكومات الولايات والمقاطعات الى جانب الحكومة الفيدرالية.
بالنسبة للعنف الأسري كثرت الدعوات لتشكيل لجنة تحقيق ملكية عارضتها الحكومة الفيدرالية وايدتها المعارضة، وبنت الحكومة موقفها على ان تحقيقات اللجنة تحتاج لسنوات لإعطاء توصياتها، والملفت ان المعارضة والتي حكمت البلاد منذ عام 2013 حتى العام 2022 لم تحرك ساكناً لوضع حل جذري لهذه المشكلة الإجتماعية المزمنة.
وكانت المفاجأة التي فجرتها أمس الأول 5/5/2024 الوزيرة كاتي غالاغر وزيرة شؤون المرأة وزيرة المالية وزيرة الخدمات العامة على تلفزيون “أي بي سي” في برنامج “انسايدر” عندما قالت أنه من أصل 500 وظيفة خصصت لمكافحة العنف الأسري فان الحكومة لم توظف الا 30 موظفاً.
بالإضافة الى جرائم العنف الأسري وقعت في سيدني في نيسان الماضي جريمتان الاولى كانت الاعتداء على المتسوقين في مجمع بونداي جانكشن التجاري والذي ذهب ضحيته 6 أشخاص معظمهم من النساء ونفذها نويل كوتشي الذي قتلته الشرطة ولم تصنف الشرطة العملية بالإرهابية وقالت ان المنفذ كان يعاني من مشاكل نفسية.
بعد 3 أيام على جريمة بونداي وقع حادث إعتداء على رجل الدين القس مار عامانوئيل وبعض المصلين في كنيسة الراعي الصالح في منطقة ويكلي وقد اصيب بعضهم بجراح ولم يقتل أحد في هذه العملية التي صنفتها الشرطة بالإرهابية لان دوافع المهاجم عقائدية حسبما قالت الشرطة.
سببت هذه المعاملة التفضيلية قلقاً من ازدواجية المعايير لدى مجموعتين هما الناشطون في مجال العنف المنزلي وبعض مجموعات المجتمع الإسلامي، فأعرب الناشطون في مجال العنف المنزلي عن غضبهم، خصوصا أن الهجوم الوحشي الذي وقع في بونداي، والذي تعترف الشرطة أنه كان يستهدف النساء على وجه التحديد، لا يعتبر عملا إرهابيا. وثانيًا، بين بعض مجموعات المجتمع الإسلامي التي تشك في أن مرتكب الجريمة المسلم سيُعتبر إرهابيًا، ولن يعتبر غيرالمسلم إرهابيًا حتى لو فعل الشيء نفسه.
بالعودة الى السياسة والسياسيين والاعلام والتصدي لمشاكل العنف ففي الوقت الذي فتحت الحكومة معركة مع صاحب منصة أكس ايلون ماسك على خلفية الطلب الذي تقدمت به الحكومة من أكس بعدم بث صور الهجوم في الكنيسة والتي رفضها ماسك مع انه وافق على وقف بثها في أستراليا فقط.
وعلى الرغم من ذلك نجد ان السياسيين الاستراليين ولأسباب سياسية يتغاضون عن دور الإعلام التقليدي في أستراليا والذي يحرض بشكل أو بآخر ضد فئات معينة، مثل طالبي اللجوء على سبيل المثال حيث يتم إلغاء الصفة الإنسانية عنهم، وكأنهم يشكلون خطراً على الأمن القومي ولأسباب سياسية، وهذا التخويف والإستغلال تتشارك فيه كل من الحكومة والمعارضة وبأساليب مختلفة خدمة لاجنداتهم السياسية وهذا ما حصل بعدما اتخذت المحكمة العليا في تشرين ثاني 2023 قرارها باطلاق سراح بعض طالبي اللجوء الذين كانوا محتجزين بدون سقف زمني، ومع ان القرار صدر عن أعلى هيئة قضائية في البلاد فقد تم تقاذفه ككرة سياسية بين المعارضة والحكومة فاتهمت المعارضة الحكومة بعدم الاستعداد لاطلاق هؤلاء المحتجزين المدان بعضهم بجرائم سابقة.
وأفضل من يصف هذه الحقيقة هو سكوت موريسن رئيس الوزراء الفيدرالي السابق (أحرار) الذي يصف نفسه بالمؤمن ولم يستطع ان يتبع توصيات السيد المسيح حيث يقول: “ان العالم الذي خدمت فيه كسياسي لم يكن يفكر إلا في السلطة، كيفية اكتسابها، وكيفية التعبير عنها، وكيفية استخدامها (غالبًا ضد الآخرين)، وكيفية التمسك بها. لم يكن أمراً سهلاً أن يكون لديك نفس موقف السيد المسيح، وأعترف أنني فشلت في بعض الأحيان”
وعن جذور العنف يقول الكاتب وليد علي في مقالة له في الهيرالد 3/5/2024 بعنوان: إن تحميل جميع الرجال المسؤولية عن أقلية عنيفة فشل في الحفاظ على سلامة النساء.
يقول علي: لأن عملي الأكاديمي كان يدرس جذور العنف، حيث تحدد الأبحاث بأغلبية ساحقة عوامل مثل الإذلال والعار والشعور بالذنب كدوافع محفزة، وليس قلة الاحترام. عندما تذكر أدبيات الاحترام، فإن الأمر لا يتعلق بعدم احترام مرتكب الجريمة للضحية، بل يتعلق الأمر أكثر بشعور مرتكب الجريمة بأن شخصًا ما لم يحترمه.
ويقارن علي بين تحميل كل الرجال المسؤولية عن العنف بين النساء وتحميل كل المسلمين المسؤولية عن الارهاب، ويقول: “كلما سمعت هذا الخطاب أكثر، كلما ذكّرني بان الأمر متروك للمسلمين لتحمل مشكلة الإرهاب والتعامل بجدية مع حلها. وأن على المسلمين الطيبين أن يضعوا حداً للمسلمين السيئين، وأن المسلمين بحاجة إلى البدء في تحدي الإسلام المتطرف؛ وأن الإرهاب كان نهاية سلسلة متصلة بدأت بالخطاب المناهض لأميركا، أو بالنساء اللواتي يرتدين الحجاب. ويضيف الكاتب بأن هذه المقاربة كان لها مردودا سلبيا لانه أشعر المسلمين يالغربة وفي كثير من الحالات أصبحوا دفاعيين”.
إن أولويات الشعب الأسترالي هي وضع حد لغلاء المعيشة وتوفير المساكن وحل مشكلة الإسكان والعنف واتخاذ المواقف المحايدة في ما يتعلق بالقضايا الخارجية وخصوصا القضية الفلسطينية.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما هي خطة الحكومة وخطة المعارضة لحل هذه القضايا التي تشكل هاجس لكل مواطن أسترالي؟
وقد يكون أفضل جواب على هذا السؤال العنوان الذي عنونت به الكاتبة نيكي سافا مقالتها في صحيفة الهيرالد 2/5/2024: إن السردية السائدة عن البانيزي “الضعيف” وداتون “السيء” أصبحت راسخة.
وتعتقد سافا انه إذا استمرت الأمور على ما هي عليه فإن الأحزاب الكبرى ستتراجع شعبيتها وتتدنى نسبة التأييد لها وتعرض الكاتبة في مقالاتها لاسباب ذلك التراجع سواء كانت الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وإداء كل من رئيس الوزراء وزعيم المعارضة.
أخيراً، برز عنصر جديد في الأشتباك بين الحكومة والمعارضة على خلفية تعديل قوانين الكفالة حيث بدأت الاتهامات تتطاير بينهما على خلفية آخر جريمتين وقعتا ضد النساء لان المنفذين خرجوا من السجن بكفالة، ولا يقتصر الامر هنا على الحكومة والمعارضة الفيدرالية بل يتعداها الى دور حكومات الولايات والمقاطعات وما هو المطلوب منها في هذا الخصوص.
الكاتب: عباس علي مراد ـ سيدني
صحافي وكاتب.