مئتا يوم مرّت على بدء العدوان “الاسرائيلي” على قطاع غزة، وآلة القتل الوحشية لا تزال تحصد أرواح الغزاويين، نساءً وأطفالًا وشيوخًا، على مرأى ومسمع من العالم أجمع، غير آبهة لا بمنظمات حقوقية ولا دولية، ولا معيرة أدنى اعتبار او اهتمام للمواقف الرافضة للحرب، والداعية للوقف الفوري لإطلاق النار، متحدية أيضًا كل الهتافات والتظاهرات الداعمة لغزة، والتي عمّت أقصى الغرب والشرق.. لكن المقاومة وحدها كان لها كلمة الفصل في الميدان، فأوقفت جيش الاحتلال عند تخوم غزة ومنعته من تحقيق أي من الأهداف التي رسمها لعدوانه، مدخلة إياه في نفق مظلم طوال تلك المدة.
أظهرت حرب الابادة على غزة بشكل جلي لا لبس فيه مدى جبن جيش العدو، مقابل جرأة المقاومين الفوارس. فكيف لجيش مدجج بأحدث التكنولوجيا والاسلحة الغربية، نظمت فيه مدائح القوة، حتى تباهى وادعى أنه الأقوى في المنطقة، وأنه لا يقهر، كيف له أن يصب جام غضبه، وكل طاقته التفجيرية، بما يعادل أو يفوق 4 او 5 قنابل نووية على قطاع محدود محاصر، معزول وأعزل..؟!، وكيف لجيش جرار كهذا جنوده وضباطه يختبئون كالفئران في حصونهم وآلياتهم الفولاذية والحديدية المتنقلة، أن يهربوا من بنادق فردية يشحذها مقاومون، وقذائف يدوية الصنع، ليستقووا على اطفال غزة ونسائها والعجز فيها، ويمارسون بحقهم أشنع الجرائم من قتل وأسر وتعذيب؟!.
غطرسة وعجرفة القوة هذه، قابلها شعب الجبارين في غزة بصمود أسطوري، أذهل العالم بصبره وتشبثه بأرضه، فلم يسبق لشعب آخر أن تعرض لهذا الكم الهائل من أطنان المتفجرات وبقي فيه رمق، أو خرج من تحت الركام كما يخرج أبناء غزة وأطفالها وهم حاملين شارات النصر، يبشرون به..، لقد أثبتوا أنهم عصيون على اقتلاعهم من جذورهم، وأفشلوا كل مخططات وأحلام قادة الاحتلال، حول “النكبة الثانية”، و”التسرانسفير الجديد” الى صحراء سيناء في مصر..، فأهل غزة فضّلوا الموت والشهادة على الرحيل، هم جرّبوا كل أصناف الموت وذاقوا كل مرارة الحياة، لكنهم ما هانوا ولا وهنوا ولا تراجعو قيد أنملة عن حقهم بأرضهم، وحملوا دومًا همّ مقدساتهم، عن أمة كاملة، فكانوا أُسد الوغى والساحات في “سيف القدس” و”طوفان الاقصى”، وسقط منهم الشهداء وما بدلوا تبديلا.
بطولات المقاومين في غزة، ساندها منذ اليوم الاول للعدوان جبهات دعم ونصرة، فتجلت وحدة الساحات بتكامل الأدوار على مراحل وفق خطة ممنهجة، حتى بات الكيان بكله وكلكله تحت النار، وبات شعاع المعركة على طول مساحة فلسطين من “كريات شمونة الى إيلات”، يتقاسم فيه مناصرو غزة من محور المقاومة الأدوار فيما بينهم، لاستنزاف كيان الاحتلال، وتوجيه الضربات المتتالية والصفعات المؤلمة على رأسه، لإفقاده توازنه، ومقومات وجوده، وهز ثقة مستوطنيه بقادته وجيشه، الذي بات غير قادر على حماية نفسه، فكيف له أن يحمي المستوطنات، فهذه خطوة هامة كمرحلة أولية وتمهيدية على طريق إزالة الكيان من الوجود.
إحدى نتائج المئتي يوم من مواجهة جبهات المقاومة للعدوان على غزة، تجلّت بكسر الهيمنة الاميركية على المنطقة برًا وبحرًا، فما عادت أميركا ترعب أحدًا فقد تحطمت هيبتها في البحر الأحمر يوم زجت ببوارجها بعد “طوفان الاقصى” للضغط على المقاومة اللبنانية لمنعها من مساندة غزة، ويوم تحدى اليمنيون تحالف “حارس الازهار” الذي أنشاته واشنطن لمنع اغلاق البحر الأحمر بوجه السفن “الاسرائيلية” المتوجهة الى ايلات، وهي تتحطم يوميا مع تعرض القواعد الاميركية في العراق وسوريا لعمليات مقاومة، وبذلك أضحت المظلة الاميركية لحماية “اسرائيل” عبئًا ثقيلاً عليها.
في المحصلة، فإن من أهم ما أفرزته نتائج العدوان “الاسرائيلي” والتصدي له خلال المئتي يوم منذ “طوفان الاقصى”، كان امتزاج شلال الدم الغزاوي الفلسطيني بأنهار الدماء العربية، يوم فتحت طريق الشهادة على طريق القدس، وتسارعت قوافل الشهداء قافلة تلو قافلة من لبنان والعراق وسوريا وايران واليمن، وما زالت تلك القوافل تسير على ذاك الدرب حتى تحرير كامل تراب فلسطين من النهر الى البحر.