عن فلسطين والمغامرة الأخلاقيّة وكأس النبيذ
2024-04-07 08:55:44
نظر إلى كأس نبيذه الأحمر كأنّه ينظر إلى شيء محرّم، ثمّ قال: "قصّة المملكة الغنيّة مع ما يجري اليوم في فلسطين، ومع الحرب التي تدور رحاها هناك منذ ستّة شهور، تشبه قصّتي مع كأس النبيذ هذه. إنّها الكأس التي تحتاج إلى مغامرة. ما يحدث على الساحة الفلسطينيّة ليس استثناءً ولا هو حالة خاصّة. فلنتذكّر ما يحصل كلّ يوم في غياهب الأبيض المتوسّط، وكيف تبتلع المياه آلاف البشر الهاربين من جحيم العوز والمرض وطغيان الطغاة فيما المملكة ترشو الدكتاتور تلو الآخر كي يقفلوا البرّ والبحر والجوّ، ويحولوا دون تسرّب البرابرة إليها. ما الفرق بين هذا الذي يحصل أمام شواطئ لامبيدوسا وخيوس والذي يحصل على مرأًى من بحر غزّة"؟
راح يلامس كأس نبيذه بأطراف أصابعه كأنّه يلاعب النور المندلق في السائل الشهيّ، ثمّ أردف: "الموضوع لا يتّصل بالمذبحة اليهوديّة وعقد الذنب حيال اليهود فحسب. هناك شيء من هذا بالتأكيد. لكنّ هذا التفسير لا يستنفد ما يجري. ثمّة ما هو أعمق من ذلك. إنّ المملكة الغنيّة التي تقف اليوم متفرّجةً على أطفال غزّة فيما هم يُقتلون، هي إيّاها التي تفرّجت على الأرمن يُذبحون في كاراباخ. ثمّة أزمة أخلاقيّة ولا شكّ. لكنّ وظيفتنا تتخطّى الاعتراف بوجودها إلى تشريحها. هذا التشريح عمليّة صعبة. غير أنّها ليست مستحيلة. هنا مربط الفرس". قال هذه الكلمات، ثمّ سكت وعاد إلى الحملقة في كأس نبيذه.
"ثمّة، طبعاً، شيء من العنصريّة"، قال. "إحساس بتفوّق الرجل الأبيض أو الذي يحسب نفسه أنّه أبيض. لكنّ هذا التفوّق لا يأتي بالضرورة من العرق، بل خصوصاً من مستوى الإنجازات المعرفيّة، التي تحدو المملكة الغنيّة على الاعتبار أنّ نظامها المعرفيّ بلغ حدّاً من الرفعة لا يمكن الإتيان بمثله أو مجاراته. هذا الإحساس بالتفوّق إذا ترجمناه في عالم الأخلاق يحيلنا على إنجاز حضاريّ فذّ اسمه شرعة حقوق الإنسان. ليس صحيحاً أنّ المملكة تحسب أنّ هذه الشرعة لا تنسحب إلّا على مَن يقيم ضمن حدودها. المشكلة الفعليّة هي أنّها تجنح إلى الاعتبار أنّ هذه الشرعة نظام كامل ومقفل يشبه إلى حدّ بعيد مثالاً من المثل الأفلاطونيّة، وأنّ عمليّة تطبيقه إن هي إلّا مجرّد انتقال من العامّ إلى الخاصّ، وهنا لبّ المشكلة". غرِق من جديد في متاهة صمته. لكنّه هذه المرّة تناول كأس النبيذ بيده اليمنى وشرع يرفعها رويداً رويداً صوب شفتيه.
لكنّه لم يشرب، بل بدا كأنّه تذكّر شيئاً مهمّاً، ففتح فمه وقال: "حلّ هذه المعضلة يكمن في ثقافة المملكة الغنيّة ذاتها، لدى أرسطو تحديداً، ومن بعده لدى هانس-غيورغ غادامر في ما كتبه عن الحصافة (fronêsis) مستلهماً أرسطو. عالم الأخلاق لا يشبه المعادلات الرياضيّة التي تنتقل بخفّة وبراعة من العامّ إلى الخاصّ. عالم الأخلاق يستدعي الحصافة. والحصافة هي أن تكون لديك فكرة ما عمّا هو خيّر وحسن وجدير بأن تقوم به. غير أنّ هذا الخيّر والحسن لا يتشكّل ويتجسّد ويتبلور إلّا لحظة تقوم به. الحصافة هي أن تنخرط في مغامرة أخلاقيّة لا تشبه المعادلات الرياضيّة، لكونك مطالباً بأن تتّخذ فيها قرارات بالغة الخطورة مع أنّك لا تقبض مسبقاً على شروطها. اليوم، المملكة الغنيّة تتعامل مع شرعة حقوق الإنسان، التي هي أنتجتها، كأنّها معادلة رياضيّة يمكن التكهّن مسبقاً بنتائجها فيما العمليّة الأخلاقيّة الحصيفة تفترض المغامرة، وتستدعي دخول غياهب منطقة جديدة لا أحد يلمّ بتكوينها ومساحتها. المملكة مرتاحة إلى شرعة حقوق الإنسان بوصفها نظاماً عقليّاً كاملاً محكم الإغلاق، لكنّها ترتعد خوفاً ممّا يصاحب المسؤوليّة الأخلاقيّة من حتميّة الجدّة وضرورة التلمّس ومن أنّ اليقين لن تتّضح معالمه ما لم تبدأ المغامرة. حكاية المملكة الغنيّة مع التحدّي الأخلاقيّ الذي يثقل كاهلها اليوم تشبه، بمعنًى ما، حكايتي مع هذه الكأس".
ثمّ أدنى كأسه من شفتيه، واحتسى بعض قطرات من السائل الأحمر الكثيف كأنّها المرّة الأولى التي يتذوّق فيها طعم النبيذ.
المدن أسعد قطّان