لن يعود الرجال وأطفال المدارس هذا العام، محمَّلين بالهدايا وباقات الزهور. إنه عيد الانتظار الذي يَحرق القلوب: أمّهات في شمال القطاع، وأبناء في جنوبه؛ أمّهات على أبواب المنازل، يَنتظرن حبيباً لم يَعُد منذ أشهر من جبهات القتال وأخريات يبكين على شواهد القبور. الثابت الوحيد، أن ثمة أحداً مفقوداً، سواء أكان أماً أم ابناً. هكذا، لم يكتمل طقس هذا اليوم، لا في خيمةٍ ولا في بيت أو مركز إيواء. ربّما اكتمل فقط، في عائلات اجتمعت كلّها في ضيافة السماء.في صباح أمس الباكر، بدأت رسائل مغتربي عام 2024 تصل إلى هواتف الأمّهات. ضحكت أم محمود، وهي حاجّة تبيع نبتة الخبيزة على عتبة منزل وسط مخيم جباليا. محمود، نزح رفقة عائلته إلى جنوب القطاع، فيما هي وزوجها وابناها الآخران، رفضوا الخروج. تقول لـ»الأخبار»: «هذا أصعب عيد أم يمرّ عليّا من 40 سنة، إحنا عيدنا بوجود ولادنا وأحفادنا حوالينا، دخلتهم على البيت، هيا العيد، والله طالت الغربة، من خمس شهور ما شفت محمود وأولاده».
أمّا أم علاء، فهي محظوظة لأن الحرب لم تكوِ قلبها بحريق الانتظار وحيرة المصير. هي ليست واحدة من 10 آلاف أمٍّ يعشن ذلك الجحيم اليومي، بل حثّت الخطى صباح أمس، إلى القبر المؤقت لنجلها، حاملةً إليه باقة من الزهور الاصطناعية: «كان كل سنة، يرجع البيت محمّلاً بالهدايا والورد الطبيعي الحلو، ما ظلّ ورد طبيعي، لقيت كم من وردة صناعية، جيت حطهن على قبره، وأرشه مية وأقرأ الفاتحة».
9000 آلاف سيدة شهيدة رحلن، لم يكنّ فقط ضحايا هذه الحرب المستمرّة منذ أكثر من 160 يوماً. في حقيقة الأمر، أن النساء والأمهات، هن ضحايا كل شهيد وجريح، إذ يخضن يومياً معركة التصبر على الفقد، أو رعاية الأبناء الجرحى، إلى جانب معارك إيقاد النار وتجهيز الطعام بطريقة العصر الحجري، بينما نحن نعيش القرن الحادي والعشرين. أم ياسر، واحدة من أمهات فلسطين، فقدت ثلاثة من أبنائها الشباب، ولا تزال ترعى ابنها الوحيد الذي أبقته لها الحرب، مبتور القدمين، وإلى جانبه، سبعة من أحفادها أبناء الشهداء. تقول لـ»الأخبار»: «الله فقط من يلهمنا الصبر، لقد هيأنا الله لهذا الابتلاء منذ زمن، استشهد الأقمار الثلاثة، رفعوا رأسي وشرّفوني، استشهد أحمد في معركة العبور يوم 7 أكتوبر، بعدها بشهر، استشهد طاهر خلال التصدّي للدبابات في حي الشيخ رضوان، وبعده بيومين، استشهد البكر علاء في التحام مع الجيش في مستشفى الرنتيسي (…) أنا خلّفتهم، ونذرتهم لله، والله أخذ أمانته ووديعته يا بنية». قالت ذلك، وهي تنظر إلى لفيف الأطفال الأيتام، وإلى آخر ما أبقته لها الحياة، نجلها القعيد في ريعان شبابه.
أكثر ما خلّفته هذه الحرب، هو النماذج، القصص التي تشبه الخرافة، تراكُم العذاب الذي صبّ على كواهل الأمهات. كل شيء في غزة دُمّر، سوى قلوبهن، التي لا تزال بالألق والحب ذاتيهما. في ساعات عصر أمس، وقبل أذان المغرب، جلست العشرات منهن على عتبات البيوت، ينتظرن عودة الأبناء، فرحات بما عاد به هؤلاء من حبة واحدة من الحلوى، أو قليل من المكسرات، فـ»المهم أنكم بخير».