بين البشر جميعا وحدة بيولوجية غاية في الدقة. وهي وحدة لا تفرق بين إنسان في الشمال أو إنسان في الجنوب، ولكنها لا تمنع من تعدد الألوان واللغات والأجناس، وإنما تبقى شاهدة على إبداع الخالق في التنوع والاختلاف {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} (الروم ٢٢)
1. الاختلاف والتنوع يكون في الكم والكيف، أي أنه اختلاف يكون في الكم عددا بالزيادة أو النقص، ويكون في الكيف تنوعا في القدرات والملكات والاستعدادات التى تميز شخصا عن آخر من البشر أو تميز مخلوقا عن آخر من المخلوقات.
• والتميز والاختلاف هنا لا يكون في أصل الجنس، وإنما يكون في الملكات والقدرات والطاقات وعمليات استخدامها وتوظيفها، ومن ثم فهو سبحانه خالق كل شئ، وقد حمد نفسه نيابة عنا لأن العاجز الفقير لا يفي مهما أُوتى من بلاغة بحمد سيده والثناء عليه، وليعلمنا كيف يكون الحمد ويشرح لنا أيضا كم التنوع وحجمه في الإبداع الأعلى أرضا وسماء وما بينهما {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . (فاطر١)
• الملكات المتراصة والمتنوعة والمكونة للذات الإنسانية بين عقل وقلب، وجسد وروح ورغبات وشهوات قد تسمو بالإنسان وقد تسقط به،
• قد تسمو به بين فكر يصيب فيرقي الحياة ويضيف إليها وتزدان به، أو بين فكر يشرد فيضل الحياة ويخزيها ويشقيها
• بين عاطفة تتسع بالحب فتسع الناس والأحياء، أو تضيق بالكراهية والحقد فتكره كل شئ حتى نفسها.
• وحتى لا تتناقض هذه الملكات والقدرات في أدائها ولا تتصادم في توجهاتها ومسارها، ولكي تشكل منظومة متناسقة تعمل معا لابد لها من عملية تنظيم داخلي وخارجي أستأذن القارئ أن أسميها (إدارة الذات)
• وإدارة الذات كي تنجح وتحقق الهدف لابد لها من برنامج عملي ومحدد يتضح فيه المطلوب، وكيفية تنفيذه، والزمن والمكان المقرر والمفضل لذلك التنفيذ، ومن ثم كانت كل عبادة ترتبط بوقت معين، كما ترتبط بعض العبادات بأماكن معينة وفي زمن معين . هذا البرنامج لا يتم إعداده وصياغته منى أو منك ، فالفكر البشري مهما سما لابد أن يحمل بالضرورة طابع الأرض لأن كل شيء فيه يخضع لقانون الزمان والمكان ـ كما يقول المفكر الإسلامي الكبير مالك بن نبي ـ فطابع الأرض ـ بموجب خضوعه لقانون الزمان والمكان ـ هو النقص والتناقض والتغيير والتحول، ومن ثم كان لابد لهذا البرنامج أن يأتي تشريعا من المصدر الذى خلق فسوى وقدر فهدى، ولكن تنفيذ وتطبيق إدارة الذات لابد أن يكون بإرادة الذات لا رغما عنها ، ومن ثم كانت التكاليف الشرعية مرتبطة بحرية اختيار الإيمان والقدرة على تنفيذها، وحرية اختيار الإيمان بالطبع عملية عقلية محضة، ولذلك كان العقل شريك النص في معرفة الحقائق، ومن لا عقل له فلا تكليف عليه.
• وأمام هذا العقل تعرض أنواع الهداية بأدلتها التفصيلية الشارحة ليكون اختيار المرء على علم لا يداخله ظنون، وعلى يقين لا يشوبه شكوك أو غموض.
• زمان العرض لأنواع الهداية بأدلتها التفصيلية كان شهر رمضان الذي أنزل فيه القران هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
• هدى للناس في مجال العقيدة فيطرح تصور الالوهية بما يليق بالذات الإلهية من صفات الكمال والجمال والجلال، فالله واحد في ذاته فلا قسيم له.
• وواحد في صفاته فلا شبيه له.
• وواحد في أفعاله فلا شريك له.
ومن ثم طرحت قضية التوحيد بكل كمال في التنزيه بعيدا عن ضلالات التجسيم وضبابية التشبيه ، فهو سبحانه مخالف للحوادث فلا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس، وكل ما خطر ببالك فالله غير ذلك، (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير )، ويسوق القرآن أدلة الوحدانية والتنزيه من أقرب وجه وبأقوى حجة وأصدق دليل، ولا يكتفي البيان الإلهي في سوق الدليل والحجة بمخاطبة العقل وحده وإنما يحيط بالنفس من كل اتجاه ويدخل إليها من كل مدخل ويتسلل إليها من كل منفذ حتى لا يترك لها فرصة الهروب من مواجهة الحق، اللهم إلا جحودا وإنكارا لا منطق فيه، يتجاهل كل الحقائق ولا دليل له ، ولا يخضع لمعايير المنطق الموزون في عرف العقلاء.
• وبينات من الهدى في مجال التشريع بتفصيل ما يحتاجه الناس في حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وكل شؤونهم طولا وعرضا وعمقا.
• طولا في الزمان وعرضا في المكان وعمقا في الحاجات المتجددة لكل الأجيال.
• وهو شهر يستعد له المسلم ويدخل فيه بتكليف عجيب وكأنه في معسكر تدريب للنفس تمارس فيه سموها فوق الحاجات والغرائز وتضبط فيه سلوكها بميزان القيم الرفيعة نبلا وخلقا.
• وإذا كان علماء النفس وعلى رأسهم سيجموند فرويد يعتبرون غريزة الجنس وغريزة الطعام والشراب أقوى الغرائز والدوافع تأثيرا في السلوك الإنساني فإن الإسلام علم أتباعه والمؤمنين به كيف يسيطرون على غرائزهم، ودربهم عن طريق الصوم كيف يمتنعون وبإرادتهم المحضة عن ممارسة هاتين الغريزتين يوما كاملا من طلوع الفجر وحتى غروب الشمس وعلى مدار شهرا كامل حتى ترتقي إرادة المرء سيطرة وضبطا وتنظيما فيكون على غيرها أقدر.
بداية الممارسة مرانا وتدريبا قبل البلوغ، ولكنها تبدأ وجوبا منذ البلوغ، ويستمر عليها كل الحياة، فيخرج من هذا المعسكر قادرا على مواجهة الأزمات، حرا في إرادته لا ينحني له ظهر، ولا يلين له عود، ومن ثم فهو شهر مقصود العبادة فيه بجانب طاعة الخالق بناء رجولة المخلوق، وتدريبه على إدارة الذات، وعلينا أن نعى تلك المقاصد.
كل عام وأنتم بخير.
الشيخ الدكتور إبراهيم ابو محمد
المفتي العام للقارة الأسترالية.