باتت خسائر دولة الاحتلال جراء العدوان على غزة غير قابلة للتجاهل من قِبَل حكومتها المتطرفة، فضلاً عن خبراء دولة الاحتلال ومتخصصيها، على غير ما قد يظنه البعض بانحصار خسائر الحرب على المستويين العسكري والبشري فقط، فقد طالت الخسائر المستوى الاقتصادي والسياسي والمجتمعي والأمني والإعلامي، لقد بات يمكننا القول بثقة إنه قد شُوهت سمعة إسرائيل على كل المستويات، وانسكب الدم على أوراقها التي بعثرتها الأحداث.
بالنظر إلى الخسائر الضخمة لدولة الاحتلال على كل المستويات، فإنه من السهل ملاحظة عدم الاتساق بين ما يفرضه الواقع المتأزم لها وتصرفاتها المتطرفة غير المحسوبة سياسياً، واقتصادياً على وجه الخصوص، وهو ما يقودنا للتساؤل حول مَنْطَقَة التصرفات المختلة لحكومة الاحتلال.
بالحديث بشكل موجز عن الوضع المتأزّم للاحتلال فإننا أمام نزيف اقتصادي غير مسبوق، فتشير التوقعات إلى تراجع النمو الاقتصادي نحو 1.1، ليبلغ نحو 1.6% لعام 2024 -على افتراض انتهاء العدوان على غزة في الربع الأول من العام الجاري- بعد خسائر قدرها 1.4 نقطة مئوية العام المنصرم، وارتفع عجز الميزانية من الناتج المحلي الإجمالي إلى 6.6% في عام 2024، بينما سجلت عجزاً بلغ 4.2% العام الماضي، بعدما حققت فائضاً قدره 0.6% في عام 2022، ما يعني أن الحرب، أو بمعنى أدق “العدوان على غزة”، يقود اقتصاد الاحتلال الإسرائيلي للخلف شيئاً فشيئاً.
فبدايةً من السياحة فقد شهدت نمواً كبيراً في 2023، إلا أنها تعرضت لضربة قاصمة جعلت نهاية العام المنصرم مريرةً على القطاع السياحي في إسرائيل، حيث هوت السياحة بنسبة 76% في أكتوبر من العام ذاته، و82% أوائل يناير من العام الجاري، ومع تعطل حركة الطيران واستمرار الحرب فإن الخسائر في قطاع السياحة مرشحة للارتفاع.
جدير بالذكر أن خسائر السياحة لا تتوقف عند الأرقام، إنما يتعدى الأمر ذلك، ويتعلق بالسمعة والدعاية، خاصةً أن إسرائيل بذلت جهداً ضخماً من أجل إظهار نفسها كوجهة سياحية فريدة من نوعها في الشرق الأوسط، فضلاً عن التسويق لنفسها كونها وجهة سياحية “آمنة”، والحادث أنه قد انهارت كل تلك الجهود في ظرف ساعات، نهار السابع من أكتوبر 2023.
في بعض الأحيان يلتزم الاقتصاد بنفسه من حيث الخسائر، لكن في مثل تلك الأحداث فإن الأمر يتعدى ذلك بكثير، ومن تلك الزاوية يمكننا الحديث عن أزمة الاستقرار المالي لشعب الاحتلال، حيث حذّر تقرير الاستقرار المالي عن بنك إسرائيل بخطورة الحصول على ائتمان إضافي في فترة الحرب، لأنها تعني في المقام الأول تحمّل الأسر ديوناً إضافيةً يصعب سدادها، وفي المقام الثاني خفض الاستهلاك في المستقبل القريب، حيث ستستمر عملية التعافي الاقتصادي لفترة طويلة، بما يعني خروج بعض الأسر، وربما الكثير منها، عن طور العقلانية في التصرف المالي، بما ينبئ عن مشكلات اجتماعية لا محالة في المستقبل القريب، فضلاً عن المشكلات النفسية والاجتماعية التي سببتها الأحداث، مع عدم قدرة النظام الصحي على استيعاب الشكاوى النفسية بشكل كامل، ما اضطر بعض الأطباء والممرضين إلى التطوع لتلقي الشكاوى النفسية والتعامل معها.
عطفاً على الفوضى الحادثة في الحكومة، فقد كان من المثير سماع محافظ بنك إسرائيل يارون عمير يقول: “لا توجد وجبات غداء مجانية”، وأوصى باتخاذ خطوات فورية لزيادة الإيرادات بشكل دائم، مثل رفع ضريبة القيمة المضافة، وإلغاء حقوق النقاط الضريبية للآباء الذين لديهم أطفال دون سن الثالثة، أو خطوات أخرى من المتوقع أن تدر إيرادات بمبالغ مماثلة، بحجة تغطية تكاليف الحرب!
مع كل تلك الخسائر التي سردناها بشكل موجز للغاية، نستدرك في خلفية أذهاننا رسالة الـ300 خبير اقتصادي إسرائيلي، التي وجههوها لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، وكتبوا فيها: “أنتم لا تستوعبون حجم الأزمة التي يواجهها الاقتصاد، يجب أن تتصرفوا بطريقة مختلفة.” ما يجعل من السهل أن نلحظ انعدام الاتساق بين تصرفات الحكومة المختلة، ووضعها الاقتصادي الآخذ في الانهيار، فضلاً عن موقفها المتأزّم دولياً، وانكسار شوكتها، ما يجعلنا نؤمن أكثر فأكثر بشخصنة الحرب من قِبَل نتنياهو بشكل خاص، وحكومته بشكل عام، كطوق نجاة من جحيم ما بعد الحرب! ويجعلنا نؤمن بأن نتنياهو يعمل لأجل نفسه، يعمل لإنقاذ نفسه من قضايا الفساد التي تلاحقه، من أجل إنقاذ نفسه من الموت سياسياً، لقد بِتنا على يقين بأن هذا الرجل يعمل لنفسه فقط، حتى إنه لا ينظر لمستقبل شعبه، ما يجعلنا نتفاءل بأنه يكتب بداية النهاية، بعد مرحلة شكّ عميقة تزعزع الكيان وتقودهم نحو السقوط.