لعلّها المرة الأولى التي تجد فيها إسرائيل نفسها، منذ إنشائها وفرضها على المجتمع الدولي”دولةً” معترفًا بها، عالقة بهذا المستوى المؤلم بين مطرقة محور المقاومة من جهة وسندان الأزمة التي تعصف بالداخل الإسرائيلي من جهة ثانية.. إذ يكاد رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو يجد صعوبة كبيرة في الخروج من عنق الزجاجة التي حشرته فيه حركة حماس، منذ 7 تشرين الأول الماضي بـ”طوفان الأقصى”، وليست الولايات المتحدة الأمريكية وإدارة جو بايدن بعيدة عن تجرّع كأس المأزق. فهي التي تتزعّم محور الدفاع عن إسرائيل، وتجرّ معها سائر الدول الغربية التي لم تغيّر طبيعتها التوسعّية والاستعمارية، مع اختلاف الشكل والأسلوب والأدوات.
هناك كثير من المعطيات السياسية والميدانية والمجريات الواقعية التي تدعم هذه المقولة، بعيدًا عن أدبيات الانتصار والهزيمة وتوازنات الرعب والردع ومبادرات الفعل وردّ الفعل. ونبدأ من واشنطن التي فشل بايدن – كما سلفه دونالد ترامب- في إعادة تعويم الولايات المتحدة دولةً مقبولة في العالم؛ بل إن الشعور بالكراهية تجاه سياساتها في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصًا إزاء ما يجري في فلسطين، قد تصاعد وانتشر في مجتمعات الغرب نفسه. فقد سقطت مصداقية الولايات المتحدة بصفتها دولةً تسعى إلى إرساء السلام ونشر الديمقراطية والحرية في العالم، في ما تصرّ على استمرار الحرب على قطاع غزة، ولا تبادر إلى أي إجراء لوقف القمع والقتل والاعتقال في الضفة الغربية، حتى كأنّها تستغبي الشعوب والنخب في العالم على حد سواء، بالادّعاء أن المجازر التي ترتكبها إسرائيل، والتي حصدت عشرات آلاف الضحايا من شهداء وجرحى ومحو معظم مقوّمات الحياة، حتى بدأ شبح المجاعة يتهدّد مئات ألوف الفلسطينيين النازحين في رفح، لا تندرج في إطار استهداف المدنيين، وأنها لم ترصد أي انتهاك لحقوق الإنسان فيما يجري من حرب إبادة بحق الشعب الفلسطيني!!..
إن أمريكا، قبل إسرائيل، تتحمّل مسؤولية توسّع دائرة ما بات يُسمّى “محور المقاومة” واشتداد قوتها، خصوصًا بعد النكسات التي مُنيت بها الإدارات المتعاقبة في البيت الأبيض في المنطقة، بدءًا من العراق الذي لم يعد ضمن الحظيرة الأمريكية، وفشل الحرب على اليمن وتحكّم “أنصار الله” الحوثيين بمضيق باب المندب وحركة الملاحة فيه، مرورًا بالقضاء على مشروع “التكفيريين” في سوريا وإبقاء جبهة الجولان مفتوحة، وصولًا إلى المقاومة في لبنان وفلسطين التي تمعن في تضييق الخناق على إسرائيل، مع تحويل مستوطنات الشمال الفلسطيني إلى مدن أشباح، وإخفاق نتنياهو في تحقيق أي إنجاز فعلي على مدى خمسة شهور من الحرب ضد حركات المقاومة في قطاع غزة المحاصر…
في النتيجة؛ أصبح هذا المحور يطوّق إسرائيل، المشروع الاستراتيجي لقوى الهيمنة والاستعمار، من الجهات كلّها، ويهدّدها بصواريخه ومسيّراته على مدار الساعة، فيما تبقى إيران على رأس هذا المحور تمارس لعبة السياسة والحرب بإتقان، وتضبط إيقاع التصعيد والتهدئة على حدّ النار.
في المقابل؛ يتخبّط نتنياهو ومعه المستوى السياسي الإسرائيلي برمّته في تلمّس أفق الحلّ، ويندفع قدمًا باتجاه الغرق في المستنقع العسكري أكثر فأكثر. فلا هو قادر على حسم سريع للحرب على غزة، تُكسبه أوراق قوة على طاولة المفاوضات العتيدة الآتية حتمًا، في ما يحذّره مستشاروه من مغبّة فتح جبهة جديدة في الشمال ضد حزب الله، لأنها ستؤدي إلى نتائج وخيمة على مجمل الوجود الإسرائيلي، وستؤول إلى إضعاف موقع إسرائيل من جهة وتسهم في جعل يد محور المقاومة هي العليا من جهة ثانية.
ويكفي تتبّع تصريحات مسؤولي الاحتلال المدنيين والعسكريين لتقدير مستوى الرعب الذي يحدثه مجرد التفكير بأنّ “وحدة الرضوان” ترابض على الحدود، وتنتظر الأمر للتحرّك واجتياح المستوطنات.
يحاول نتنياهو دفع كرة الأزمة بالنار، وما توسيعه دائرة العدوان باتجاه النبطية وصيدا، وقبلها اغتيال المسؤول في حركة حماس صالح العاروري في الضاحية الجنوبية، إلا سعيًا منه لاستدراج المقاومة إلى تصعيد، ولكن وفقًا لنسق مضبوط ومحدّد، ولا يتدحرج إلى معركة مفتوحة.
لعلّ هذا الأمر يدفع باتجاه الضغط الشامل، ويقود إلى جلوس الجميع على طاولة مفاوضات تؤول بنتائجها إلى حلّ شامل يحافظ فيه على مستقبله السياسي من جهة، ويضمن هدنة طويلة تحت إطار التسوية إلى أن يحين أوان معركة أخرى بظروف مختلفة، من جهة أخرى.
لكن هذا التفكير، بحسب ما يراه مراقبون، لا يعدو سوى أمنيات يسعى نتناهو إلى تحقيقها، وهو في ساعة تأمّل، فتعقيدات الأزمة أكبر من أن تجد طريقها إلى الحلّ بكبسة زر، خصوصًا أن الأطراف الذين كانت واشنطن تستعين بهم لتسويق أي تسوية في المنطقة، وبالأخص في سياق الصراع العربي – الإسرائيلي، لم يعودوا في موقع يضمن لهم النجاح في ممارسة الضغوط والتغطية، ففاتورة الدم عند طرفي المواجهة، إسرائيل ومحور المقاومة، أصبحت مرتفعة جدًا وتحاصر نتنياهو، ولا يمكن تجاوزها أو محوها بـ”شحطة قلم” أو بغضّ نظر.