من يصل زائرا الى طرابلس وتحديداً الى مستديرة ابو علي، يبدأ نهر ابو علي بالتكشف امامه ليعتقد للوهلة الأولى بأنه مكب نفايات وليس بنهر.
هذا النهر شاهد على تاريخ مدينة طرابلس ورويت قصته على ألسنة الأجداد، أما اليوم فقد تبدل المشهد كلياً فتحول من مشهد طبيعي خلاب الى مرمى للنفايات واستبدل صوت هديره بأصوات أصحاب البسطات المجاورة له.
ينبع نهر أبو علي من مغارة قاديشا في سفوح القرنة السوداء وظهر القضيب في جبل المكمل، ويجري في وادي قاديشا أو وادي قنوبين ويصب في البحر الأبيض المتوسط مخترقاً مدينة طرابلس.
سمّيَ بنهر ابو علي نسبة إلى ابو علي بن عمار أحد أمراء المدينة من اسرة بني عمار الذين حكموا طرابلس في نهاية القرن الحادي عشر الميلادي والذي نظم النهر ومنع فيضانه وعمل على تأمين الاقنية منه للريّ، وقد استفاد الطرابلسيون من نهر “أبو علي” لتأمين مياه الشرب، ولغسل أغراضهم، ولتحريك دواليب الطواحين الحجرية.
يذكر التاريخ المعاصر أن أبو علي فاض في العام 1955 فيما عرف بعدها بطوفان نهر أبو علي أو “سنة الطوفة” وأدى هذا الفيضان إلى شبه غرق المدينة بالمياه اضافةً الى الخسائر البشرية والإقتصادية.
كان النهر قديماً تحفة خضراء لا تخلو من الزوار وقامت بفضله جنائن غناء واشتهرت زراعة التوت وقامت عليها صناعة الحرير، وبعد ذلك أصبحت طرابلس مزرعة لليمون والبرتقال تفوح منها رائحة عطرة أضيفت على إثرها صفة الفيحاء.
تبدل حال نهر ابو علي مئة وثمانون درجة فلم يتبق منه سوى اسمه وبعض الحكاية التي يرويها كبار الطرابلسيين عن تاريخه الحافل إهمالا وراء إهمال اوصل النهر الى مشهد بائس ولو استطاعت صور السياسين المعلقة قبالة نهر ابو علي رؤية مشهد النفايات الممتدة على جانبيه وداخل مياهه لخجلت أن تبقى مرفوعة بهذا الشكل، فبعد أن كان نهر ابو علي مصدر الحياة في طرابلس قديماً أصبح اليوم مرتعاً للمجارير التي تصب فيه من كل الأقضية المجاورة.
ويشتكي أهالي المناطق المجاورة للنهر من انبعاث الروائح الكريهة وانتشار الذباب والبرغش اضف الى ذلك تحول سقف النهر إلى بسطات لباعة اكتسحوا النهر من كل جوانبه ونشروا بسطاتهم الفوضوية في كل مكان مرتكبين عن قصد أو عن غير قصد، جريمة بيئية بحقّ أهم معالم طرابلس السّياحية والحضارية، ما يطرح سؤالا، ألا تستحق طرابلس مشروعاً تنموياً لتأهيل مجرى النّهر وتحسين مساره؟
يشير رئيس لجنة الآثار والتراث خالد تدمري لـ”” الى ان “الحضارات الكبرى تقوم دائما على ضفاف الأنهار وهذا هو حال طرابلس المرتبطة بشكل مباشر وتاريخي بنهر ابو علي وكانت مياه هذا النهر تشكل مصدر حياة حيث كانت تسحب منه المياه لمختلف احياء طرابلس، وكانت المدينة سباقة في هذا الإطار ولكن مع الأسف هذا النهر تعرض للتشويه عدة مرات كفيضانه عام 1955 لتأتي الدولة بعدها بمشروع تخريبي أزالت النهر عن بكرة ابيه وحولت مجراه ووسعته ورفعته بشكل لا يتطابق مع نسبة المياه المتدفقة في مجراه وللأسف نتج عن ذلك هدم اقدم واعرق المحال التجارية والتاريخية في طرابلس”.
ويتابع: “الكارثة الثانية اتت مع مشروع احياء الإرث الثقافي الذي كان عكس اسمه حيث لم يقم بالحفاظ على هذا الارث من خلال اظهار النهر من جديد وإعطائه تلك الأهمية من خلال تدريجه او تجميل محيطه بل عمدت الى صرف 20 مليون دولار على سقفه بغية استحداث أكشاك وبسطات على سطحه ساهمت في تشويه المكان وحولت 300 مترا من النهر الى موقع عشوائي فوضوي لا يمكن السيطرة عليه، كما ان اسفل هذا السقف تحول الى نفق مظلم تعشعش فيه الاوساخ التي يصعب مراقبتها”.
وختم تدمري: “الحل هو وضع دراسة لمجرى النهر، وكان سبق ووضِعت الكثير من الدراسات والمقترحات لتحسن مجرى النهر وتحويله الى مياه متدفقة على مر العام ليس فقط في الشتاء من خلال زرع مجراه بتدريجها وتحويل المياه الى شلال وتنظيم وضع الكورنيش وهذه الخطط تحتاج لرؤية ليست صعبة كما تحتاج للتمويل الذي عندما توفر للاسف صرف على سقف النهر فقط” .
ما يتعرّض له نهر أبو علي يتحمّل مسؤوليته المواطن والبلدية والوزارات المعنية، فالإهمال وقلة المسؤولية ساهمتا بتحويله من شاهد على حضارة طرابلس الى شاهد على اوساخ ترمى داخل مياهه وتنتشر في كل مكان وسط غياب تام للمعنيين، ما يطرح علامات استفهام عدة حول الغاية من وراء هذا الإهمال.
أسئلة وتساؤلات تحتاج الى اجوبة وحلول لتعيد مجد آثار وتراث طرابلس..