جرياً على عادتهم عند كل حدث، ينقسم اللبنانيون بين مؤيد ومعارض لمجرياته والتبعات التي تترتب عنه. وليس آخرها عملية “طوفان الأقصى” التي انطلقت في السابع من تشرين الأول الماضي، والاعتداءات الإسرائيلية التي تلتها على الجنوب اللبناني منذ الثامن من الشهر عينه.
التباين في الآراء أمر طبيعي بحسب مفهوم الدولة الديمقراطية التي يفترض اننا نعيش في ظلها، الا ان ما هو غير طبيعي ومرفوض ان يذهب الاختلاف في الرأي الى حد توجيه الاتهامات بالعمالة او بتفضيل الموت على الحياة.
وفي السياق، كان لافتاً الكلام الذي جاء على لسان البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في عظته الاحد المنصرم، والذي بحسب تعبيره نقله عن اهل القرى والمناطق الحدودية، “نرفض ان نكون رهائن ودروعاً بشرية وكبش محرقة لسياسات لبنانية فاشلة، ولثقافة الموت التي لم تجر سوى الانتصارات الوهمية”.
كلام البطريرك الراعي كاد عن قصد او غير قصد ان يشعل فتنة داخلية البلد بغنى عنها. وهو يظهر تناقضاً في مواقفه اذ انه في مختلف عظاته السابقة كان يتحدث بروحية تستنكر الابادة الجماعية وتدعو الى تحييد لبنان، وهذا ما تمارسه المقاومة حيث نجحت حتى اليوم في منع إسرائيل من شن عدوان عليه”.
قد يكون غاب عن بال البطريرك الماروني ان اهل الجنوب لا ثقافة لهم سوى ثقافة الحياة، التي لولا تمسكهم بها لما تمكنوا من دحر المحتل عن ارضهم في أيار 2000، ولا كانوا استطاعوا تسطير الانتصار الكبير في 14 آب 2006. وان كان التذكير ينفع، لولا مجاهدي حزب الله المنتشرين على الحدود لكان مسلحو داعش تمكنوا من دخول مختلف القرى البقاعية وقتلوا اهلها على غرار ما حصل في بلدة القاع الحدودية في العام 2016. ولولا هؤلاء المرابطون على الحدود منذ الثامن من تشرين الاول 2023، والتضحيات التي يبذلونها، لكان العدو الاسرائيلي نفذ مخططه و”أعاد لبنان الى العصر الحجري” كما دأب قادته على التصريح.
من جهة ثانية، واذا ما اردنا التطرق الى ما يحصل في الجنوب من الناحية الدينية، فإن السيد المسيح الذي ولد في “لبنان” لا في “اليهودية” (بحسب كتاب الاب الدكتور يوسف يمين)، هو اول مقاوم في التاريخ، يوم تصدى للصوص وتجار الهيكل.
الى ذلك، يقول السيد المسيح “ما مِنْ حُبّ أعظَمَ مِنْ هذا: أنْ يُضَحّيَ الإنسانُ بِنَفسِهِ في سَبـيلِ أحبّائِهِ”. (انجيل يوحنا 15:13)، وهو الذي رضي بالصلب ليمنحنا الحياة الجديدة. وما يقوم به المقاومون في الجنوب هو بذل النفس دفاعاً عن تحرير الارض وحمايتها من المحتل، هذه الارض المقدسة المعمدة بدماء اطفال قانا، ورجال ونساء الجنوب، الذين يوم قتلهم العدو الاسرائيلي في مختلف مراحل اجتياحه للبنان لم يسألهم لا عن جنسهم ولا عن ديانتهم.
وفي سفرالمكابيين الثاني في الكتاب المقدس تقول إحدى الآيات “ولقد صبر إخوتنا على ألم ساعة، ثم فازوا بحياة ابدية، وهم في عهد الله، واما انت فسيحلّ بك بقضاء الله العقاب الذي تستوجبه بكبريائك”. وهذه الآية تنطبق على من يسعى ويجهد للدفاع عن المظلومين وتظهر ان لهؤلاء مرتبة كبيرة عند الله.
لا يختلف اثنان على ان سيد بكركي كان وسيبقى رمزًا للعيش المشترك وركنًا أساسيًا من أركان الحفاظ على لبنان وسيادته، وقد يكون اخطأ في التعبير وجلّ من لا يخطئ. ولكن بمعزل عن كل هذا، يبقى اهل الجنوب سنداً وعضداً لبعضهم على اختلاف طوائفهم، فهم يحبون الحياة، التي منها انبثقت مقاومتهم، لاستعادة ما سلب منهم ممن يعتقدون انهم “شعب الله المختار”.