أصدرت محكمة العدل الدولية قرارها بشأن القضية التي حركتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في 29 ديسمبر/كانون الأول 2023، باعتبار أن إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية في غزة، وبعد النظر في القضية التي عقدت لها أول جلسة استماع يوم 11 يناير/كانون الثاني 2024، إذ صدرت قرارات محكمة العدل الدولية يوم الجمعة 26 يناير/كانون الثاني 2024.
إذ أمرت محكمة العدل الدولية إسرائيل باتخاذ جميع التدابير التي في وسعها لمنع الإبادة الجماعية بغزة، رافضةً الاعتراض الإسرائيلي بردِّ الدعوى، إذ قالت إن لديها صلاحيات بالحكم بإجراءات طارئة في قضية الإبادة الجماعية. وقالت المحكمة: “على دولة إسرائيل أن تتخذ كل الإجراءات التي في وسعها لمنع ارتكاب جميع الأفعال ضمن نطاق المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية”.
كما أضافت أنه يتعين على إسرائيل ضمان عدم ارتكاب قواتها إبادة جماعية في غزة، وكذلك ضمان عدم ارتكاب قواتها أي أعمال قد تؤدي إلى الإبادة الجماعية، مع تحسين الوضع الإنساني، وإلزام إسرائيل بتقديم تقرير إلى المحكمة في غضون شهر واحد حول تنفيذ القرار.
ويعتبر القرار تاريخياً؛ من ناحية أنه لأول مرة ستنظر المحكمة في مسائل الإبادة الجماعية لتصدر فيها قراراً طارئاً، إذ كانت قراراتها الـ141 السابقة تدور جميعها حول النزاعات التي تقع بين الدول، المتعلقة بالاتفاقات الدولية، وقد غلبت على معظمها أزمات الحدود بين البلدان، ونستعرض بعض تلك القرارات.
بعد عقد عدة جلسات على مدار ثلاثة أسابيع، أصدرت المحكمة الدولية بأحقية مصر في طابا يوم 29 سبتمبر/أيلول 1988، وذلك بعد ضغط الولايات المتحدة على إسرائيل بقبول اللجوء إلى القضاء الدولي بخصوص النزاع الناشئ بين مصر ودولة الاحتلال حول الحدود عند طابا المصرية، إذ امتنعت إسرائيل عن الانسحاب من طابا في 1981-1982، بحجة وجود اختلاف في تحديد العمود 91 الذي رسمت به الحدود بين مصر والدولة العثمانية عام 1906.
في ديسمبر/كانون الأول 2003، طلبت الجمعية العامة للأمم المتحدة رأياً استشارياً بشأن العواقب القانونية لتشييد الجدار العازل، الذي شرعت إسرائيل فيه بالأراضي المحتلة، مع أخذ رأيها القانوني بشأن بناء الجدار، ضمن مبادئ القانون الدولي واتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949.
وصدرت قرارات محكمة العدل الدولية في 9 يوليو/تموز 2004، قراراً يقضي بأن “الجدار مخالف للقانون الدولي” وطالبت إسرائيلَ بإزالته من كل الأراضي الفلسطينية، مع تعويض المتضررين من بناء الجدار، كما طالبت دول العالم بعدم الاعتراف بالوضع غير القانوني الناجم عن بناء الجدار.
ودعت الجمعية العامة ومجلس الأمن إلى النظر في أي إجراءات أخرى لإلزام اسرائيل بإنهاء الوضع غير القانوني للجدار. وقد مكن ذلك القرار فيما بعد، من فرض حظر على إسرائيل في تصدير الأسمنت لبناء الجدار، إضافة إلى كونه أحد الأسانيد القانونية لعدم الاعتراف الدولي بالتوسع الاستيطاني في الضفة.
محكمة العدل الدولية وقضايا الإبادة والتعذيب
لم تحكم محكمة العدل الدولية في قضايا الإبادة والتعذيب سوى مرات قليلة، إذ اختصت محاكم دولية مؤقتة بالفصل في قضايا الإبادة، مثل محاكم المنتصرين في نورمبرغ وطوكيو، ومحكمتي مذابح رواندا ومحكمة يوغسلافيا، قبل أن تتأسس محكمة الجنائية الدولية الدائمة عام 1998-2002.
تختص المحكمة الجنائية بمحاكمة الأفراد، فانخرطت منذ التسعينيات في محاكمة مجرمي الحرب ومرتكبي الإبادة في رواندا ثم في يوغسلافيا، في حين كانت قرارات محكمة العدل الدولية بعيدة نسبياً عن تلك القضايا، وتنخرط في النزاعات بين الدول وليس الأفراد المتورطين في الجرائم.
وكانت أول قضية تنخرط فيها متعلقة بالإبادة، قضية تعويضات طالبت بها البوسنة والهرسك من صربيا، ورفضت محكمة العدل الدولية في 2007 طلب البوسنة دفع صربيا تعويضات بمليارات الدولارات لمذبحة سربرينتشا، إلا أن الحكم طالب صربيا بتسليم راتكو ميلاديتش وغيره من المتهمين بارتكاب جرائم إبادة جماعية إلى المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة.
وقالت المحكمة إن المذابح التي تعرض لها مسلمو البوسنة في مدينة سربرينتشا، تمثل إبادة جماعية، إلا أنها لا تستطيع تأكيد مسؤولية صربيا عنها.
أصدرت محكمة العدل الدولية في 16 مارس/آذار 2022، قراراً ضد روسيا يطالبها بأن تعلق فوراً العمليات العسكرية التي بدأتها قبل إصدار القرار بأسابيع، وجاء هذا الحكم- وهو أول حكم من نوعه تصدره “المحكمة العالمية”- رداً على دعوى رفعتها أوكرانيا في 27 فبراير/شباط، متهمةً روسيا بالتلاعب بمفهوم الإبادة الجماعية لتبرير عدوانها العسكري.
وحكمت محكمة العدل الدولية في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، ضد نظام بشار الأسد، إذ كانت هولندا وكندا قد حركتا دعوى ضد النظام السوري باعتباره خرق اتفاقية “مناهضة التعذيب” في يونيو/حزيران من العام نفسه، وصدر قرار من المحكمة يطالب سوريا باتخاذ جميع الإجراءات التي في وسعها لمنع أعمال التعذيب وغيرها من الانتهاكات، وهو خطوة فارقة نحو حماية المدنيين في البلاد.
إيران تقاضي الولايات المتحدة في محكمة العدل
بعد الحادث الجوي الذي وقع يوم 3 يوليو/تموز 1988، بعشرة أشهر وبالتحديد يوم 17 مايو/أيار 1989، أقامت إيران دعوى أمام المحكمة ضد الولايات المتحدة الأمريكية، بعد التدمير الجوي الذي قامت به سفينة USS Vincennes، وهي تابعة للقوات المسلحة للولايات المتحدة، تعمل في الخليج العربي، لطائرة الخطوط الجوية الإيرانية “إيرباص A-300B”، ما تسبب في مقتل 290 من ركابها وطاقمها.
ووفقاً لحكومة جمهورية إيران الإسلامية، فإن الولايات المتحدة، من خلال تدميرها تلك الطائرة ووقوع خسائر بشرية مميتة، ورفضها تعويض إيران عن الأضرار الناجمة، وتدخلها المستمر في الطيران بالخليج الفارسي، قد انتهكت بعض أحكام اتفاقية شيكاغو للطيران المدني الدولي لعام 1944 واتفاقية مونتريال لعام 1971 لقمع الأعمال غير المشروعة الموجهة ضد سلامة الطيران المدني.
وأكدت جمهورية إيران الإسلامية كذلك، أن مجلس منظمة الطيران المدني الدولي أخطأ في قراره الصادر يوم 17 مارس/آذار 1989 بشأن الحادث. وفي غضون المهلة الزمنية المحددة لإيداع مذكرتها المضادة، أثارت الولايات المتحدة الأمريكية اعتراضات أولية على اختصاص المحكمة مثلما فعلت إسرائيل في قضية غزة.
برسالة مؤرخة في 8 أغسطس/آب 1994، أبلغ وكلاء إيران والولايات المتحدة المحكمة بشكل مشترك، أن حكومتيهما “دخلتا في مفاوضات قد تؤدي إلى تسوية كاملة ونهائية للقضية”، وطلبتا من المحكمة “تأجيل إلى أجل غير مسمى بدء المرافعات” بشأن الاعتراضات الأولية، التي حددت لها تاريخ 12 سبتمبر/أيلول 1994.
بموجب رسالة في 22 فبراير/شباط 1996، أبلغ الطرفان بشكل مشترك تنازلهم عن القضية، لأنهما دخلتا في “اتفاق على التسوية الكاملة والنهائية”.
تكرر الأمر ثانية عندما اختصمت إيران الولايات المتحدة في يونيو/حزيران 2016، وطالبتها بالإفراج عن أموال جمدتها الولايات المتحدة بقيمة 2 مليار دولار، وبعد 7 سنوات تقريباً في مارس/آذار، قضت محكمة العدل بعدم الاختصاص.
وفي أغسطس/آب 2018 تقدمت إيران بدعوى قضائية لمحكمة العدل الدولية بأن الولايات المتحدة خرقت “معاهدة الصداقة والعلاقات الاقتصادية والحقوق القنصلية” عام 1955، وذلك بسبب العقوبات التي شددها دونالد ترامب على إيران آنذاك، وأصدرت قرارها بعدها بشهرين، إذ كان “لا ينبغي أن تؤثر العقوبات الأمريكية على الوضع الإنساني في إيران”، وهو القرار الذي رفضته الولايات المتحدة، بحجة أنه كان في صالح إيران.
أحكام مختلفة بخصوص الاتفاقيات
جاءت قرارات محكمة العدل الدولية في 14 يوليو/تموز 2020، برفض استئناف قدمته البحرين ومصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، في يوليو/تموز 2018، ضد قرار منظمة الطيران المدني الدولي الذي رفضت بموجبه اعتراض الدول المعنية على اختصاص المنظمة الأممية بالحكم في نزاع الطيران مع دولة قطر.
وفي 1999 تقدمت جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية بشكوى ضد الدول الأعضاء في منظمة حلف شمال الأطلسي بشأن تصرفاتها في حرب كوسوفو. تم رفض هذا الطلب في 15 ديسمبر/كانون الأول 2004، بسبب عدم الاختصاص، حيث لم تكن جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية طرفاً في النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية وقت تقديم الطلب.
وفي 2005 تقدمت جمهورية الكونغو الديمقراطية بشكوى ضد أوغندا متهمةً إياها بانتهاك سيادتها، وأن جمهورية الكونغو الديمقراطية فقدت موارد بقيمة مليارات الدولارات، وقد تم البت فيها لصالح جمهورية الكونغو الديمقراطية.
لم تتضمن قرارات محكمة العدل الدولية طوال تاريخها إدانة مباشرة لدولة نفذت إبادة جماعة، حتى إسرائيل فهي لم تدينها لكنها طالبتها باتخاذ إجراءات للحيلولة دون وقوع جرائم الإبادة الجماعية، وهي بذلك تعتبر فاتحة في تاريخ المحكمة أن تشير إلى اختصاصها باتخاذ إجراءات طارئة لوقف الإبادة الجماعية.