يعتبر محمود درويش أحد أبرز شعراء المقاومة الفلسطينية، وقد شهد العديد من التطورات والأحداث في فلسطين وقضى سنوات طويلة في السجن بسبب مواقفه المناهضة للکیان الصهيوني، وإن هذه العوامل، إلى جانب النزعة الوطنية العميقة، أثرت في الخطاب الشعري لمحمود درويش. وتشير النتائج إلى أن درويش مر بثلاث مراحل خلال حياته الأدبية.
تعكس أشعاره في المرحلة الأولى (1960-1969) ميوله الوطنية وتوجهاته الماركسية في موضوع فلسطين. وقد استخدم درويش في هذه المرحلة، المخاطبة المباشرة والتناص والقناع.
وفي المرحلة الثانية (1969-1982) يأخذ الأسلوب والدلالات الشعرية في قصائد درويش طابعاً أيديولوجياً ومع تطور النزعات الجماعية يظهر فيها النهج الثوري والنزعة العرقية ولذلك استخدم الشاعر الضمير "نحن". بعد مغادرة بيروت، يتخذ درويش، الذي يشعر بخيبة أمل بسبب الميول العرقية، من نفسه ملجأً.
بينما تعبر قصائد هذه الفترة، والتي تشكل المرحلة الثالثة (1982 إلى 2008) من حياة درويش الأدبية، عن ميول الشاعر الفلسفية. ومن خصائص هذه الفترة يمكن أن نشير إلى سيطرة الحزن، والمخاطبة غير المباشرة، واستخدام الضمير "أنا" الذي يدل على انطواء الشاعر.
مقدمة:
الخطاب هو مفهوم اختلف المنظرون والمفكرون في تعريفاته؛ فيعتبر ميشيل فوكو أن الخطاب هو "المجال العام لجميع الأحکام، أي جميع أجزاء الكلام أو النصوص ذات المعنى" أو "مجال المعنى الذي يسمح بطرح بعض المواضيع ويرفض موضوعات أخرى". ومن وجهة نظر فيركلاف، فإن الخطاب هو "عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية، الذي يرتبط بعناصره الأخرى، ويشير إلى جانب محدد من استخدام اللغة". ويمكن القول أن الخطاب هو نوع خاص من استخدامات اللغة - الكلام أو الكتابة - يروجه مستخدمو اللغة تحت تأثير الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية لكل عصر. ومن ناحية أخرى، يتم أيضاً تجاهل بعض التراكيب والعبارات التي تعتبر الصحيحة نحوياً.
فالشعر كأحد الأنواع الأدبية هو مرآة المجتمع، أو بمعنى آخر، هو نتاج البيئة السياسية والاجتماعية والثقافية وحتى الاقتصادية للمجتمع.
وبالطبع فإن الأيديولوجيا أيضاً كنوع من "الإيمان بالفلسفة التي تفسر أفعال الإنسان ودوافعه وتحدد واجبات الإنسان وعلاقاته في الحياة" تلعب دورا مهما في نهج الأدباء في مواجهة التطورات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية للمجتمع.
تطور الخطاب الشعري عند محمود درويش
تعتبر تجربة محمود درويش الشعرية تجربة فريدة من نوعها من حيث الثراء اللغوي والتأثير والملامح الفنية والحداثة والأبعاد الإنسانية والقومية والتجريبية. ومع تأكيده على العلاقة بين الشعر والواقع، يعتبر درويش أن المصدر الأول للشعر هو الواقع في تجربته الشخصية. ويقول عن العلاقة بين شعره والواقع: "أنا لا أكتب الشعر لتغيير الواقع، ولكن الواقع يجبرني على الكتابة". وفي هذا الصدد، فقد قسم العديد من النقاد تجربة درويش الشعرية من وجهات نظر مختلفة؛ والقاسم المشترك بين هذه التقسيمات هو قضية فلسطين وعلاقة الشاعر بالوطن، الأمر الذي شكل نوعا من الأيديولوجية السياسية عند محمود درويش.
وفي تقسيم آخر، تنقسم هذه التجربة إلى ست فترات، وما يتناوله المؤلف في هذا البحث هو الأيديولوجية التي تحكم تجربة درويش الشعرية، ومن هذا المنطلق يمكن تصنيف تجربة درويش الشعرية وحياته الأدبية إلى ثلاث مراحل.
المرحلة الأولى: التوجهات القومية والوطنية (1960-1969)
تبدأ هذه المرحلة من حياة درويش الأدبية بوجوده في فلسطين، ويتشكل فيه اهتمامه بقضايا الوطن والميول الوطنية في ظل الاحتلال. وخلال هذه الفترة اعتقل درويش خمس مرات في "الأعوام 1961، 1965، 1966، 1967، 1969" بسبب مواقفه المناهضة لكيان الاحتلال، ويصف تجربته الأولى في السجن بأنها الحب الأول الذي لا ينسى: «إن السجن الأول مثل الحبّ الأول لایُنسی».
تأثر بالأفكار الماركسية في فترة دراسته الثانوية، و في هذه الفترة، بعد انضمامه إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي (1961) ورئاسة تحرير صحيفة "الاتحاد" ذات النزعة الاشتراكية، تأثر بالأفكار والعقائد الاشتراكية.
ويرى درويش أن "الفكر الاشتراكي علمه طريقة فهم التطورات الاجتماعية التاريخية وكشف له سر المعاناة الإنسانية واستمرارها، وعززت هذه الفكرة روح الوطنية والمطالبة بحقوق المواطنين الفلسطينيين في النضال ضد عنصرية ووحشية الكيان الصهيوني لدى محمود درويش". ومن ناحية أخرى، فقد تسببت الظروف الاجتماعية والسياسية التي شهدها العالم العربي خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي في انتشار الأفكار الماركسية بين الأدباء.
وبناءً على ذلك فإن الأيديولوجية التي تحكم فكر درويش في هذه المرحلة من حياته الأدبية هي أيديولوجية الوطنية والنضال ضد احتلال وظلم الكيان الصهيوني، والتي تستحضر مبادئ الفكر الاشتراكي القائم على نضال البروليتاريا و البلدان الواقعة تحت حكم الإمبريالية ضد البرجوازيين والمستعمرين.
وهذا التوجه عند درويش ليس بسبب التزامه بهذا التفكير في حد ذاته؛ بل إن انسجام أسس هذا الفكر مع النزعة الوطنية لمحمود درويش وتحرير فلسطين وتحرير شعبها المظلوم من ظلم المستعمرين وعملائهم، دفع الشاعر إلى الالتزام به، ولذلك يمكن القول إن قضية فلسطين كانت العامل الأساسي في تمثيل هذا الفكر في نتاجاته الأدبية.
ومن سمات هذه المرحلة من تجربة درويش الشعرية، والتي تتجلى معظمها في دواوين الشعر أوراق زیتون، عاشق من فلسطین، آخر اللیل و العصافیر تموت فی الجلیل، النزعة الوطنية القوية، والتوجه الثوري غير المباشر، وسيادة روح التمرد والتمرد، وتمثيل واقع فلسطين وعدم قبوله، المقاومة والنضال ضد طغيان المحتلين، والتعبير عن معاناة الشعب الفلسطيني المضطهد واللاجئين، ذو ميول يسارية اشتراكية، متأثر بالشعراء الرومانسيين والمهجرین.
المرحلة الثانية: النزعات الطائفية والتعصب العرقي (1970-1982)
وفي عام 1971، وبعد تعرضه للضغوط الإسرائيلية والسجن عدة مرات، اضطر درويش إلى اختيار النفي، فذهب أولاً إلى القاهرة، ثم إلى بيروت وانضم إلى منظمة التحرير الفلسطينية وقد واجه النفي الطوعي لمحمود درويش العديد من الانتقادات والاحتجاجات، خاصة من جانب النقاد؛ واعتبروا خروجه من فلسطين شكلاً من أشكال الاستخفاف بقضية فلسطين ومواجهة العدو والنضال الأدبي
بينما اعتبر درويش، في المؤتمر الصحفي الذي عقده يوم 11 شباط 1971، وجوده في القاهرة مسألة شخصية وللحصول على مزيد من حرية التعبير في إطار القضية الفلسطينية.
وإن الأيديولوجية الحاكمة في تلك المرحلة من حياى محمود درويش هذه هي أيديولوجية التعصب العرقي، والتعصب العرقي هو "نوع من الشعور المشترك في سمة أو موضوع مشترك، بين مجموعة من الناس، مما يخلق الوحدة والتضامن بينهم ويميزهم عن الجماعات أو الشعوب الأخرى". وفي هذه المرحلة يتشكل لدى درويش اعتقاد بأن التمسك بالميول العرقية يخلق نوعا من الارتباط بينه وبين الفلسطينيين، مما يعزز روح المقاومة ضد العدو المحتل. وبالطبع فإن الفكر اليساري يستمر في التدفق في شعره ويربط نتاجه الأدبي بالقضايا الاجتماعية وقضية فلسطين، وإنه يمزج بين الميول العرقية والفكر اليساري دفاعاً عن فلسطين. ومن المواضيع التي يتناولها درويش في هذه المرحلة هي العروبة، والثقافة العربية، والتمسك بأرض فلسطين، والاحتجاج على الظلم ضد الشعوب العربية والتوجهات العربية.
ويمكن رؤية هذه المرحلة من تجربة درويش الشعرية أكثر في دواوين الشعر حبیبتی تنهض من نومها 1970، أحبك أو لا أحبك 1972، محاولة رقم (7) 1093، تلك صورتها وهذا انتحار العاشق 1975، و أعراس 1977. ومن خصائص هذه الفترة يمكن أن نذكر سيطرة روح الجماعة، والميول العرقية، والتعبير عن التجربة الجماعية الفلسطينية.
المرحلة الثالثة: التوجهات الفلسفية والانطواء (1982-2008)
هذه المرحلة من حياة درويش الأدبية، والتي يتم التعبير عنها غالباً في دواوين الشعر لماذا ترکت الحصان وحیدا 1996، الجداریة 2001، حالة الحصار 2002، لاتعتذر عما فعلت 2003، کزهر اللوز أو أبعد 2005، أثر الفراشة 2008، لاأرید لهذه القصیدة أن تنتهی ، تبدأ بعد خيبة أمله من اتفاقات أوسلو عام 1991 والمرض الذي تجذر في حياته.
خلال هذه الفترة، نأى درويش بنفسه عن العالم الخارجي والتجأ إلى نفسه وبدأ كالمراقب بمراقبة نفسه وفي قصائده في هذه المرحلة يخاطب الشاعر "أنا" العائدة على درويش بضمائر "أنت" و"هو". ومن مميزات إنتاج درويش في هذه المرحلة التأمل والتفكير الذي يأخذه أحياناً إلى الماضي ويذكره بذكريات طفولته، ويعيد الشاعر بناء الطفولة ليقدم واقعا جديدا من الماضي للجمهور، وليس واقع الماضي كما كان. ويرى درويش أن الفجوة بين الطفولة والشباب قد محت ذكريات الطفولة المريرة من ذهنه ولم تحافظ إلا على جمال ذلك الوقت وإن عمل العقل جعل درويش يتذكر نفسه كطفل سعيد، على الرغم من أنه عاش كابوس احتلال فلسطين عندما كان طفلاً.
النتيجة
يظهر تحليل أشعار درويش أن التجربة الشعرية لمحمود درويش، شاعر المقاومة الفلسطينية، تتشكل حول محور فلسطين، وتشكل فلسطين أساس موقف الشاعر، وإن الأيديولوجيا التي تحكم موقف الشاعر في كل مرحلة من مراحل حياته الأدبية، يتم اختيارها بما يتناسب مع حالة فلسطين وخدمتها.
وانطلاقاً من الأيديولوجية الحاكمة لفكر درويش، يمكن تقسيم خطابه الشعري إلى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: التوجهات القومية والوطنية 1960 - 1969: وفي هذه المرحلة تتشكل التوجهات القومية والوطنية عند درويش؛ ولذلك فإن الأيديولوجية التي تحكم فكر الشاعر في هذه المرحلة هي أيديولوجية الوطنية، والنضال ضد احتلال وظلم الكيان الصهيوني. في هذا العقد، تأثر درويش بالفكر الاشتراكي اليساري والميول الشيوعية، وبينما كان يعكس هذه الأفكار في محتوى وموضوع نتاجه الأدبي، فإنه يضع أسس الماركسية والاشتراكية في خدمة الوطنية والحرية الفلسطينية.
المرحلة الثانية: النزعات الطائفية والتعصب العرقي: في هذه المرحلة، يدرك درويش أن الميول العرقية يمكن أن تكون عاملاً مهماً في الوحدة بينه وبين الفلسطينيين لذلك فهو يتناول الميول العرقية، بما في ذلك نزعة جمال عبد الناصر العرقية، والتأكيد على الهوية العربية، والتشبث بأرض فلسطين، والميول العربية والاحتجاج على الظلم ضد الشعوب العربية. في هذه المرحلة من حياة درويش الأدبية، التي يقضي معظمها في المنفى، تستمر النزعات الماركسية اليسارية في التدفق في شعره، ويمزج الشاعر بين النزعات الماركسية اليسارية والقومية دفاعا عن فلسطين. ولذلك فإن الخطاب الحاكم في هذه الفترة يتشكل على أساس النزعة الجماعية والتعصب العرقي.
المرحلة الثالثة: الانطواء والتوجهات الفلسفية: تأثرت المرحلة الأخيرة من حياة درويش الأدبية بالأحداث السياسية في فلسطين، وخاصة اتفاقية أوسلو وما نتج عنها من خيبة أمل كبيرة وأزمة قلبية لدرويش. والموضوع الأبرز في هذه المرحلة هو فكرة الموت والصراع بين الحياة والموت في أشعار درويش. حيث أن الظروف الاجتماعية والسياسية في فلسطين والمرض يذهبان بدرويش إلى داخل نفسه.