ما يقدمه المخرج والمؤلف مارتن مكدوناه في أحدث أفلامه «The Banshees Of Inisherin» يعد إضافة إلى سلسلة الأعمال التي تنتمي إلى نوعية الكوميديا السوداء التي تحمل تعقيدات درامية على مستوى القصة، ونهايات مفتوحة ترمز إلى الكثير من الاحتمالات، وتكوين متعدد الأبعاد للشخصيات الرئيسية.
مكدوناه، الذي تفنن في صياغة قصة هذا الفيلم، يرتكز على الرمزيات، والجمع بين الجد والعزل، والتطرق إلى معضلات البشر ونظراتهم للحياة، ولاإنسانيتهم الخاصة، وقد يبدو العمل أقرب الى حكاية يسهل روايتها على مسامع الآخرين، لكن مع التعمق أكثر في التفاصيل، نجده يتحول بكامل فصوله إلى معالجة فلسفية تتجسد معانيها بطريقة سينمائية رائعة ستترك فعليا انطباعا إيجابيا عند ذوي الحس الفني العالي.
تدور أحداث «The Banshees of Inisherin» في جزيرة أيرلندية بعيدة تدعى «اينيشيرن» حول «بادريك» الذي يقرر صديقه «كولم» قطع علاقته به دون سابق إنذار أو مبررات، فيحاول معرفة سبب القطيعة تلك في الوقت الذي يتعرض فيه لظروف معينة تؤثر على حياته، ويشير المخرج مكدوناه هنا إلى العديد من الأمور التي تمس الإنسان في العموم، بداية من «بادريك» العادي الذي يريد أن يقضي الوقت مع صديقه «كولم»، ويعيش بصحبة شقيقته ويفعل ما يفعله في دائرة مغلقة روتينية بحتة، حيث يجسد «بادريك» صورة الإنسان المسالم الذي لا يكلف ذاته بالبحث عن مسببات أخرى للحياة طالما أنه يعيش بطريقة تبدو له أنها مثالية، في إشارة إلى حقيقة أو أسلوب معين يعتنقه بعض البشر كضمانة الاستمرار والاستقرار الحياتي بشكل كبير.
على الجانب الآخر، نجد أن «كولم» هو التضاد الفعلي لشخصية «بادريك»، ذلك العجوز الذي سئم الأخير من كلامه المكرر وحماقته الشديدة والجنوح عن التفكير في فعل شيء مختلف يحدث أثرا معينا، كل ذلك يتجلى في شريط سينمائي بديع ومترابط التفاصيل.
يعود المخرج مارتن مكدوناه إلى موطنه «أيرلندا»، حيث يختار احدى الجزر كمركز للأحداث، معتمدا تماما على معالمها الطبيعية وطرقاتها وأبنيتها كأماكن فرعية ترتبط بالشخصيات بصور معينة، ويقدم لنا مناظر خلابة وطبيعية كأنه يريد أن يعبر عن واقعية القصة من خلال المكان الذي تتحرك فيه الشخصيات بحثا عن العزلة مثل حال «كولم»، والأنس المستمر كحال «بادريك».
في هذا الفيلم نحن أمام أقوى أداءات تمثيلية في الفن التجسيدي، بداية من «كولين فاريل» المتألق هذا العام، حيث يبرز بشكل أكبر بأدائه لشخصية «بادريك» من ناحية إظهار طباعها من ناحية الجنوح لنمط واحد في الحياة، وارتجال الانفعالات المتعلقة بخسارة صديقه وتأثير الأمر عليه بصورة بليغة، يقابله «بريندان جليسون» المتميز هو الآخر في تجسيد الشخص الذي يحاول ترسيخ وجوده كإنسان في الحياة حتى ولو على حساب صديقه، بالإضـــــافة لـ «باري كوغان» بدور «دومينيك» المقاوم لرغبات أبيه، كذلك «كيري كوندون» بشخصية «شوبان» شقيقة «بادريك» التي يمنحها الفيلم الوقت من أجل أن تكون عنصرا مهما في الأحداث ومؤثرا على «بادريك» شخصيا.
في الختام، يتميز «The Banshees Of Inisherin» بالتفرد السردي والقصصي والدرامي الذي يقدمه المخرج مارتن مكدوناه، ويجعل العمل مسار حديث الجمهور والأجدر بالمشاهدة أكثر من مرة نظرا للعمق الكبير الذي تتحلى به القصة التي تقدم معاني كثيرة عن الحياة بصورة استثنائية بالفعل.