أمي... السيدة الفاضلة المؤمنة الطيبة المعطاء الكريمة، والخياطة، والصبية والدلوعة وجيهة حوماني - أم رشيد - في سنة غياب جسدها الرابع تسكن الغيمة، من هناك تمطر ماء الصبر على جسدي المتعب، وتنعش روحي المنهكة من انتظارها، وتعاود زرع الأمل في خبايا أفكاري كي أعود إليها كلما جف زمان وجودي، وكلما حضر اليباس من حولي!
حينما مات أبي شاباً لم تكن أمي قد بلغت ربيع العمر، والغيمة أخذت كل المطر، أمي كانت طفلة في فكرها وتجاربها الحياتية، الطفلة الأم، الطفلة المرأة التي انجبت خمسة أطفال وهي تحتاج إلى لعبتها التي فقدتها باكراً!
الأم الطفلة غاية بالجمال العذري، أنيقة التصرف، ومذواقة في اختيار المفردات، وسلسة الملابس غير أهل الريف وهي المقبلة من المدينة...يومها، وبلحظة أدركت أن زمانها قد هرم فقررت المواجهة واستعادته إلى وضوح الفجر!
يومها استوعبت صدمة الدهر، فشكرت الرحمن، وتنازلت عن عرشها لتبدأ العمل والمسؤولية دون تربيح الجميل من هذا وذاك، خاصة من أقرباء الوالد حيث السيوف والخناجر والطمع اللا محدود!
يومها...صفنت باللحظة، قرأتها وعاشتها، وخاضت معها نقاشاً عميقاً...وقررت أن تتنازل عن حياتها لتوهبها إلى اطفالها... تناولت سيجارة لأول مرة، وكادت أن تشربها السيجارة، ولكن دخانها رسم أحلام أمي التي حولتها إلى حياكة في ثوم الأيام المقبلة، إلى حكاية أمل من صبر الأيام...!
لملمت أيامها، ووضعتها في لوحة الروح بانتظار عون الرحمن...ومن غيره هو المعين والمصبر، وحامي الأميرة من ذئاب الجهل، وحقد الأقربون وغيرتهم وطمعهم!
خاضت المعارك وحيدة وهي تقف على أعتاب الصلاة، تناجي ربها، وتنام مع عمرها في قارورة السنين داخل بنك الخالق، وفاضت مع الليل سهراً إلى أن يصدح المؤذن بإبلاغها أن ذاك اليوم قد انتهى، وسلم أوراق اعتماده إلى يوم جديد فيه رزق من الرحمن ومن تعبها!
كانت أمي صغيرة ترسم ما تبقى من شقاوة عمرها لتضعها في ثوب احاكته من ذهب الصبر وتقدمه لنا...
كانت أمي تطير من الفرح كلما شاهدتني ازرع أشجاري في بساتين أحلامي ومواهبي وعالمي، كانت تسبق زمانها وأجيالها في فهم ما أن عليه...
كانت أمي ثرية بالطموح والذوق والجمال وخدمة غيرها، والأهم كانت مؤمنة بالقدر، لذلك لم تلتفت لذاك التصرف الأحمق، ولا لمن غدر واخطأ حاسداً لها، وجافاً في عواطف عائلية لا يعرف أن نظرات من تربي الأيتام هي تسابيح الرحمن!
هي قائدة انتصرت رغم كل الصعاب، واجهت وحيدة، ولم تنتظر سيوفهم الدامية، بل صنعت من الصبر متاريسها الصلبة...نعم الرحمن يهدي الأم الأرملة مفاتيحه الحياتية، يزرع في الأمل الذي لا نعرف مشاهدته، ولكنها تشاهده في أحلام الصحوة!
أمي كانت دلوعة، يفوح من عطرها كل الجمال، ولم تهمل جمالها وشبابها لحظة إلى أن أسلمت الروح، كانت تزين كل دقائق العمر بعطور التسامح والعنفوان والذوق الرفيع والأناقة المتجددة ورائحة جسدها المأخوذة من رائحة روحها المرحة وجمال وجهها وحنكة كلامها المنمق والمنطقي!
أربع سنوات كأنها كل عمري، وكأنها سحابة في كتاب المذكرات، هي حاضرة لم تغب، ولكنها غير موجودة في مادية الصورة، هي في كل مسايانا حزينة وفرحة، تنظر ولا تبوح، وإن باحت يصلني الصوت من خارج اللغة!
هي أمي وجيهة التي تصالحت مع الموت كما تصالحت مع الحكاية، وطرزت كفنها الذي جهزته من الإمام الرضا قبل الرحيل بسنوات كما تنفذ فستان العروس...!
أمي ...هي أمي التي خاضت الوجع مع ألام حقدهم وغيرتهم منها دون أن تعلمنا بنواياهم الخبيثة، لا بل لم تكترث لكل تصرفاتهم الصبيانية لكونها ببساطة فخامة الغالية أمي...!
أمي...ما أن أُصاب بالبرد صيفاً وشتاء، أضع وشاحك الذهبي على جسدي كي أشعر بالدفء، وانظر إلى صورتك في كل جوارحي ... يوم سكنت قصرها 31//12