في معرض التعليق على المُعلن من "خطة" النظام "السرّية" لتحويل جيشه إلى "جيش نوعي متطور احترافي يعتمد على المتطوعين"، ينقسم المعلّقون إلى فريقين، أحدهما يقلل من قيمة الدافع الاقتصادي وراء ذلك، فيما يُعلي آخرون من قيمة هذا الدافع، حتى أنهم يعتبرون "الخطة" بأكملها، مجرد بروباغندا لاستدراج تمويل مالي خارجي في سياق ترتيبات سياسية وأمنية مزعومة.
وما بين وجهتَي النظر أعلاه، يتموضع البعد الاقتصادي في الصميم، بوصفه دافعاً، وبوصفه، في الوقت نفسه، إشكالية تخلق شكوكاً حول مدى قدرة النظام على الذهاب بعيداً في "خطته" تلك. ولا ينفي البعد الاقتصادي، الأبعاد الأخرى، السياسية والأمنية، بل يتداخل ويتكامل معها.
ويتعذّر فهم تحرك النظام هذا، بالنظر من زاوية المرسوم الذي أصدره بشار الأسد قبل أسبوعين، والذي أجاز دفع بدل نقدي داخلي لمن بلغوا 40 عاماً، بقيمة 4800 دولار أمريكي، مقابل إعفائهم من الخدمة الاحتياطية. إذ يصعب الرهان على هذا المصدر لتمويل مسعى تأهيل جيش يقوم على التطوع براتب ضخم للغاية، مقارنة بوسطي الأجور الحكومية (1.3 مليون ليرة سورية، وفق عقود التطوع المعلنة من وزارة الدفاع – مقارنةً بوسطي أجور حكومية لا تتجاوز الـ 300 ألف ليرة)، وذلك رغم ضآلة هذا الراتب مقارنة بتكاليف المعيشة (وصل خط الفقر العام إلى 1.6 مليون ليرة سورية شهرياً عام 2022). كذلك يصعب الرهان على هذا المصدر، لتحقيق تمويل نوعي لخزينة النظام، إذ أن الفئة التي ستدفع هكذا مبلغ (4800 دولار أمريكي) في الداخل السوري، ستبقى محدودة للغاية.
ولفهم الصورة بشكل أشمل، يجب تشريح ذاك التداخل بين الأبعاد الثلاثة، الاقتصادية والسياسية والأمنية. فالاقتصاد السوري في حالته الراهنة، بوصفه اقتصاد مخدرات وتهريب ميليشيوي، يعيق قدرة رأس هرم النظام على التقدم في إقناع الراغبين الخليجيين بتمويل إعادة تأهيل سلطته، لتحقيق انفصال عرى هذه السلطة عن النفوذ الإيراني المباشر. هذا الانفصال لا يمكن له أن يتحقق دون إخماد الحالة الميليشاوية المتفشية في مناطق سيطرة النظام. وهو الانفصال الذي يخدم مصالح بشار الأسد في ضمان توريث كرسي الحكم لابنه من بعده، بعيداً عن شبح منافسة شقيقه، ماهر، المرتكز بقوة إلى النفوذ الإيراني، وإلى شبكات الاقتصاد الميليشيوي غير المشروع، الذي يموّل اقتصاد فرقته الرابعة.
وهكذا، يبدو أن بشار الأسد ارتد –جزئياً- إلى خطة إصلاح الجيش، التي حاولت روسيا فرضها قبل بضع سنوات، والتي قاومها بشراسة، خشية أن تؤدي إلى خسارة نفوذه ومن ثم أمن كرسي حكمه، داخل هذه "المؤسسة". فكانت نتيجة ممانعته تلك، تعزيز الحالة المسلحة الميليشاوية، وإجهاض المسعى الروسي لتأهيل جيش سوري أكثر احترافية. كما أدى ذلك إلى تعزيز الترابط بين شقيقه وفرقته الرابعة وبين النفوذ الإيراني المباشر وميليشياته الناشطة على الأرض السورية. وحينما انطلق "قطار التطبيع" مع بشار الأسد، سرعان ما توقف في محطاته الأولى، إذ بدا بشار، للقادة المُطبّعين، عاجزاً عن السيطرة على المشهد الميليشياوي، مقابل شقيقه والإيرانيين، الأكثر ظهوراً في هذا المشهد، وهو ما قاله ملك الأردن بشكل شبه مباشر، قبل بضعة أشهر.
من هذه الزاوية، تبدو "خطة" بشار الأسد، طموحة ونوعية. فهو يستغل أجندة ستلقى تأييد الكثير من الأطراف المعنية –تأسيس جيش احترافي-، أبرزهم الروس والأتراك وبعض الدول العربية. خاصة لو تم الترويج لها من زاوية تفكيك ميليشيات المخدرات. ولو كُتب لهذه "الخطة" الذهاب بعيداً، يمكن لـ بشار الحصول على تمويل يتيح له استدراج مقاتلي الميليشيات المحسوبة على الإيرانيين وتلك الأخرى المرتبطة بشقيقه، أو تلك المرتبطة بتوازنات عشائرية ومناطقية (كما في شرق البلاد)، لدمجها داخل جيش يخضع بصورة شبه كاملة لسيطرته. فيرجع بشار الأسد الذي كانه، قبل عام 2011، أو على الأقل، إلى وضعٍ قريب منه. فيضمن القدرة على توريث كرسي الحكم لابنه، لا لشقيقه. ويستعيد القدرة على التعامل مع الإيرانيين بندّية الحليف، لا بتبعية العاجز.
إلا أنه تبقى أمام هذه "الخطة" الطموحة، معوّقات كثيرة. أبرزها، حجم التمويل المطلوب لتحقيق مستويات متقدمة منها. ومدى استعداد دول خليجية للانخراط بسخاء في تمويلها، دون وجود ضمانات لعدم انزياح ذلك التمويل بعيداً عن غايته. خاصة في ظل تجارب سابقة مع شخص بشار الأسد، ذاته، تخلق هامشاً كبيراً من عدم الثقة.
ويبقى المعوّق السابق، متواضع الحجم أمام معوّق آخر، متمثّل في مصالح المليشيات، التي تحوّلت إلى مافيات تهريب ومخدرات وتشبيح، قادرة على قلب الطاولة على سلطة "الدولة" الشرعية، بصورة صادمة، في كثير من الأحيان. وتمرّدُ زعيم ميليشيا الدفاع الوطني في الحسكة، عبد القادر حمو، قبل بضعة أشهر، مثال صارخ على ذلك.
أما المعوّق الأكبر على الإطلاق، فهو شقيق الأسد، ماهر، وفرقته الرابعة، وشبكة اقتصادها التي تغلغلت في مفاصل الاقتصاد السوري، وأحكمت سيطرتها على مصادر التمويل المتاحة فيه، وتعززت صلاتها الزبائنية بشبكة واسعة من السوريين، وبالحلفاء في حزب الله وإيران.
وهكذا تبدو "خطة" بشار الأسد، أشبه باستدراج عروض خارجية، لتمويل إعادة تأهيل قوته الداخلية، في سياق منافسة مع شقيقه، وتضارب مصالح مع الإيرانيين. ولو حظِي استدراج العروض هذا بمتقدمين مستعدين للانخراط بسخاء، فهذا يعني أننا سنكون على موعد مع صراع مرتقب بين الشقيقين، قد يدخل مرحلة "كسر العضم"، في أمد زمني غير بعيد.