فيما تخوض إسرائيل حروبها في غزّة على وقع عدد القتلى المدنيّين، وفيما يخوض حزب الله في جنوب لبنان حرباً لا قرار لها على وقع القرار الإيرانيّ بعدم الانخراط في الحرب، أعلنت كلّ من «رويترز» ووكالة "فرانس برس" الفرنسيّة، قبل أيّام، أنّ إسرائيل هي من استهدف صحافيّيها في جنوب لبنان: السرديّة الإسرائيليّة كاذبة، القتل أتى عن سابق الإصرار والترصّد، لم يكن ثمّة مجال للخلط بين الصحافيّين ومقاتلي حزب الله. كلّ هذا معلّل وموثّق بالأدلّة، ويتقاطع مع ما توصّلت إليه أيضاً كلّ من مؤسّستي «هيومن رايتس ووتش» و«أمنستي إنترناشيونال»، اللتين اعتبرتا أنّ الجريمة ضدّ الصحافيّين ترقى إلى مصافّ جرائم الحرب. هاتان المؤسّستان بالذات كانت لهما قبل زمن ليس بطويل مواقف جريئة حيال ما يجري في إسرائيل من ممارسات الفصل العنصريّ ضدّ الشعب الفلسطينيّ. أمّا التحقيقات التي قامت بهما وكالتا الصحافة، فكانتا بالتعاون مع منظّمة بريطانيّة غير حكوميّة تدعى Airwars، ومع منظّمة هولنديّة للبحث العلميّ التطبيقيّ تدعى TNO مختصّة بتحليل الأسلحة والذخائر.
ألم تلاحظوا شيئاً غريباً؟ كلّ هذه المؤسّسات مؤسّسات غربيّة. أليس مستغرباً أنّ الاعتداء لم يجرِ مثلاً على وكالات صحافيّة إيرانيّة أو روسيّة أو صينيّة؟ أليس مستغرباً أنّ مراكز البحوث التي انخرطت في إماطة اللثام عن الجريمة مراكز غربيّة، لا إندونيسيّة ولا آذريّة ولا سعوديّة، ولا حتّى برازيليّة أو كولومبيّة؟ طبعاً مفهوم المنظّمة غير الحكوميّة هو أيضاً مفهوم غربيّ، وهو يقوم بالدرجة الأولى على الخبرة أنّ الحكومات غالباً ما تكون لها أجندات سياسيّة تتناقض مع مصالح الأفراد ومصالح الجماعات. في هذا السياق، تعريب الألفاظ مفيد أحياناً: «هيومن رايتس ووتش» هي المؤسّسة التي تراقب مدى الالتزام بتطبيق شرعة حقوق الإنسان في أنحاء العالم كافّةً. طبعاً، هذه الشرعة مشروع أتانا من الغرب على الرغم من أنّه ذو بعد عالميّ لا يرقى إليه الشكّ. كان شارل مالك، أحد الذين اضطلعوا بدور ذي شأن في صوغ هذه الشرعة، يقول إنّ واضعيها كانوا، في معظمهم، يدورون ثقافيّاً في فلك المسيحيّة البروتستنتيّة. البروتستنتيّة هي الحركة الإصلاحيّة الأهمّ في العقل المسيحيّ، إذ لولاها لما كانت هناك فلسفة تنويريّة (يكفي أن نتذكّر إيمانويل كانط) ولا كان هناك نقد تاريخيّ للكتاب المقدّس. يتقاطع مع ملاحظة شارل مالك هذه أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة لم تتبنَّ منظومة حقوق الإنسان إلّا إبّان ستّينات القرن الماضي، وتحديداً في إطار المجمع الفاتيكانيّ الثاني. يومها، غلّبت الكثلكة منطق احترام حقوق الأفراد على منطق المؤسّسة، أي منطق قيافا، صالب يسوع، فنجحت في أن تكون أمينةً للإنجيل. شارل مالك نفسه كان أرثوذكسيّ الانتماء، لكنّه كان ينتسب فلسفيّاً إلى السكولاستيكيّة الكاثوليكيّة، وتحديداً إلى فلسفة القدّيس توما الأكوينيّ، وهو مع ابن رشد، المسلم العظيم الذي آمن بمرجعيّة العقل، عميد فلاسفة ما درجنا على تسميته «القرون الوسطى».
فضح جريمة قتل الصحافيّين يأتي، إذاً، من هذا المدى الغربيّ الذي يؤمن بقيم راسخة كالعدل والحرّيّة وحقوق الإنسان وتغليب منطق الحقّ على منطق القوّة. لقد تعرّض هذا الغرب للسباب كثيراً في الأسابيع الماضية بسبب سقطته الأخلاقيّة المروّعة في غزّة. مردّ هذه السقطة هو تغليب منطق المصلحة السياسيّة والعقد التاريخيّة والتأويلات المنحرفة للكتب المقدّسة على منطق الحقّ والعدالة وحقوق الإنسان. لكنّ التعاطف المذهل مع قضيّة فلسطين، بعدما أًُغرقت وسائل التواصل بصور الدمار والخدّج المشلوحين على ما يشبه الأسرّة في مجمّع الشفاء، كان في الغرب أيضاً، في شوارع نيويورك ولندن وجينيف، لا في شوارع موسكو وبكين. والنقاش الذي يدور اليوم حول مستقبل المأساة الفلسطينيّة المستمرّة منذ خمس وسبعين سنة، وضرورة إيجاد حلّ عادل لها، يدور في جامعات الغرب، التي تضامن طلّابها مع السرديّة الفلسطينيّة متحدّين البروباغندا الصهيونيّة، لا في جامعات طهران والرياض والدوحة. ليس الغرب ملاكاً بالطبع، لكنّ مقاربته وكأنّه جوهر ثابت لا يتغيّر وأنّه، تالياً، «محكوم» بتنفيذ مصالحه على حساب الانتصار للحقّ والعدل إنّما هو ضرب من السذاجة المطبقة.
هذا الغرب الذي تعاطف مع إسرائيل بسبب ما حصل يوم السابع من أكتوبر هو إيّاه الذي يدينها اليوم على جرائمها. كيف يمكن لذلك أن يحصل؟ السبب بسيط: الغرب لم ينتج منظومة مصالح فحسب، بل أنتج أيضاً حضارةً تستند إلى العقل الذي تكمن عبقريّته في أنّه يصحّح ذاته. وأنتج ثورات من أجل العدالة وإلغاء العبوديّة. وأنتج زخماً للحرّيّة وصحافةً للحرّيّة حين تلّقفناهما في هذا الشرق صنعنا نهضةً عربيّةً ارتجّت لها الدنيا. وأنتج شرعةً لحقوق الإنسان، ومفهوماً لجرائم الحرب، وماهيّةً للجرائم ضدّ الإنسانيّة، التي بإسمها كلّها يلاحَق المرتكبون في إسرائيل، وسيلاحَق المغتصبون جميعاً حتّى بعد موتهم وإلى أن تقوم القيامة. هذه الحضارة الغربيّة، في أثمن وأجمل وأبهى ما أبدعته، يستطيع الآخرون أن يتلقّفوها ويستدخلوها ويصبحوا جزءاً من ديناميّتها، ولا سيّما في نقدها لذاتها، كما نتعلّم من شارل مالك اللبنانيّ وإدوارد سعيد الفلسطينيّ ومشروع النهضة العربيّة الذي لم يخبُ بريقه إلى اليوم. ما تحتاجه الحضارة الصينيّة العظيمة ليس مفكّرين ينتقدون الغرب، بل مفكّرين ينتقدون ثقافتهم هم. وما يحتاجه الفكر على ضفاف الفولغا ليس فلاسفةً يشرحون لنا كيف تختلف روسيا عن الغرب، بل فلاسفةً يطبّقون المنهج النقديّ «الغربيّ» (مع الاعتذار من ابن رشد) على تاريخهم هم، وثقافتهم هم، وما يقوم به قياصرتهم الجدد اليوم من سياسة قاصرة. لا أسهل من أن ننتقد حضارة العقل والنقد والقيم التي أنشأها الغرب. لكن من الصعب أن نأتي ببديل لها يكون مقنعاً.