الصحة النفسية للصحافيين مُغفَلة...رغم تراكم الكوارث والحروب
2023-12-09 13:30:43
منذ العام 2010، شهدت الدول العربية حالة عدم استقرار واسعة خلفتها موجة الربيع العربي التي بدأت بشكل ثورات للمطالبة بالحريات السياسية والديموقراطية، وتحولت لاحقاً لحروب أهلية كما الحال في سوريا وليبيا، أو إلى ثورات مضادة كما الحال في تونس ومصر، فيما كانت الأراضي الفلسطينية كعادتها تشهد صراعات مع إسرائيل من حين إلى آخر كما هو الحال في غزة اليوم، بينما عاش لبنان والعراق والسودان وغيرها أحداثاً من الانقلابات والانفجارات والتوترات العرقية والطائفية. وكل ذلك، إلى جانب الكوارث الطبيعية والتغير المناخي، أدى إلى حالة من تراكم التجارب القاسية على الصحافيين بشكل يسلط الضوء على صحتهم الجسدية والنفسية والعقلية أكثر من أي وقت مضى.
وسط هذه الظروف ربما يعتقد كثيرون أن التطرق إلى موضوع الصحة النفسية ليس أولوية أبداً، خصوصاً بعد مقتل عدد كبير من الصحافيين والصحافيات مؤخراً، خلال الحرب في غزة، والاشتباكات على الحدود اللبنانية مع فلسطين. لكن، لم يعد بالإمكان إنكار انعكاس عملهم على صحتهم النفسية الذي يؤثر بطبيعة الحال في صحتهم الجسدية، ومدى إنتاجيتهم، لأن عملهم أثناء تغطية الحروب والأزمات والكوارث يتطلب منهم مجهوداً جسدياً ونفسياً.وفي حين يشعر المشاهدون بضغط نفسي وقلق وخوف من مجرد مشاهدة الأخبار، لا بد من التساؤل عن شعور مَن ينقل تلك الأخبار ويتعامل معها على أساس يومي. وأكدت الاختصاصية النفسية والناشطة الاجتماعية، وردة بو ضاهر، في حديث مع "المدن" أن "الاهتمام والانتباه إلى وضع الصحافيين الفزيولوجي أساسي، لكن لا يمكن في المقابل الاستخفاف بصحتهم النفسية لأنها تعطيهم القوة ليتمكنوا من أداء مهامهم الصحافية على أكمل وجه، خصوصاً في ظل الكوارث والحروب والأزمات المستمرة".ويتواجد الصحافيون غالباً في الميدان أو في غرف الأخبار، وفي الحالتين هم أول من يتلقى الصور القاسية والمؤلمة والمؤذية، وأول من يتعامل معها. لذلك، يواجهون صعوبة في الحفاظ على توازنهم النفسي والعقلي. وقد يصعب عليهم في أحيان كثيرة عدم التعاطي شخصياً وإنسانياً مع القصة التي يغطونها، خصوصاً إن لم يكونوا مدربين ومدربات على المواءمة بين إنسانيتهم وبين مسافة أمان نفسية تحميهم.وتعرّف "منظمة الصحة العالمية" الصحة النفسية على أنها حالة من الرفاه النفسي تمكن الشخص من مواجهة ضغوط الحياة، وتحقيق إمكاناته، والتعلم والعمل بشكل جيد، والمساهمة في مجتمعه المحلي. وأوضحت بو ضاهر أن "الصحافيين بشر يتأثرون مثلنا بالأخبار والضغط النفسي والعصبي الذي تسببه، بالإضافة إلى أنهم يضطرون في أحيان كثيرة إلى وضع أنفسهم داخل دائرة الخطر لتغطية الخبر ونقله إلى المشاهدين، وهو أمر صعب جداً ومرهق نفسياً".وأشارت بو ضاهر إلى أنه "قبل الحديث عن تأثير تغطية الأخبار في الصحافيين، من المهم توضيح أسباب التأثير السلبي الذي ينبع بالدرجة الأولى من خوفهم على صحتهم الجسدية لأنها في خطر حقيقي، والخوف على العائلة والمحيط. وهم معرّضون للقلق الدائم والخوف من فكرة تأثير عملهم في عائلاتهم"، مضيفة أن "الضغط النفسي الذي يواجهه الصحافيون بسبب الأحداث التي تقع حولنا في معظم البلدان. وهم يعانون من الأزمات الاقتصادية مثلنا، ومتعبون من تداعياتها على حياتهم الخاصة وعملهم الصحافي".وأوضحت بو ضاهر أن "أبرز ما يعانيه الصحافيون بسبب عملهم، هو اضطراب ما بعد الصدمة، الاكتئاب، القلق، الضغط النفسي وتداعيات تعرضهن للخوف والصدمات".ورغم ازدياد أهمية صحة الصحافيين والصحافيات النفسية، إلا أنها في الحقيقة، خصوصاً في الدول العربية، لا تحظى باهتمام المؤسسات الإعلامية. ولا تقدم لهم استشارات أو خدمات نفسية، ولا تدربهم على التعامل مع أخبار العنف والحروب والكوارث.والنصيحة الأهم التي قدمتها بو ضاهر إلى الصحافيين في هذا الإطار هي "خلق التوازن"، مضيفة أن "أهم وأول خطوة يجب اللجوء إليها هي المتابعة مع معالج نفسي، لأن العلاج النفسي أساسي لكل صحافي عموماً، وللعاملين أثناء الحروب والأزمات والكوارث، بشكل خاص". وأضافت أنه "من الضروري جداً أن يحاول الصحافيون الفصل قدر الإمكان بين حياتهم وعملهم. ورغم صعوبة ذلك، من المهم جداً أن يعرف الصحافيون أن هذه مهمتهم وهم ينفذونها على أكمل وجه، وهم يحتاجون بالتالي إلى استراحة كي يتمكنوا من إعطاء عملهم حقه، لأن الاهتمام بأنفسهم وبصحتهم يمكنهم من أداء مهام عملهم".والحال أن مهمة الصحافيين نابعة من مهنة إنسانية بالدرجة الأولى، هدفها إيصال أصوات الناس ومشاكلهم، لذلك قد يصعب عليهم عدم التورط إنسانياً في القصة التي يغطونها والتفاعل معها، ما قد يؤدي إلى شعورهم بالإحباط أو بالذنب تجاه الضحايا أو الناجين لأنهم لم يتمكنوا من مساعدتهم بشكل أكبر.ولطالما كانت هذه الإشكالية موجودة في المجال الإعلامي: "متى تنتهي مهمة الصحافي؟ هل عليه فقط أن ينقل الخبر؟ هل يجب أن يتفاعل معه؟ هل من الخطأ محاولة مساعدة الضحايا والناجين أو إيجاد حل لمشكلاتهم؟ هل يقتصر عمله على نقل القصة أو يتوسع إلى محاولة تحسين المجتمع وما يحدث حوله؟".وبجميع الأحوال، ومهما كانت الإجابة، فإن الأكيد أن الصحافة هي واحدة من المهن التي يمكن أن تنعكس بشكل سلبي على الصحة النفسية لمن يمارسها في جميع الدول. لكن الفرق بين دول المنطقة والدول الغربية مثلاً يكمن في نظرة المجتمع في الأساس إلى موضوع الصحة النفسية والعلاج النفسي على أنه أمر اعتيادي، وضرورة لإكمال الحياة بشكل متوازن.