من المفترض أن يناقش مجلس الوزراء يوم غد الثلاثاء المسودّة المطروحة، لمشروع قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي. وفي خلاصة النقاش، إمّا أن يقرّر المجلس المصادقة على مرسوم مشروع القانون بحلّته الأخيرة، أو بعد إجراء تعديلات تفصيليّة طفيفة، وإمّا أن يقرّر دفنه من جديد، على اعتبار أنّ الطبخة لم تنضج بعد. ومن المعلوم أن مندرجات مشروع القانون التقنيّة المعقّدة جدًا، والتي جرى العمل عليها في مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، لا تتيح للحكومة القيام بتعديلات جوهريّة تمس بآليّات ومعايير إعادة الهيكلة. كما يحول دون ذلك ارتباط القانون بمسارات أخرى، مثل مسار تعديل أسعار الصرف المعتمدة للتصريح عن الميزانيّات المصرفيّة، الذي يعمل عليه مصرف لبنان، ومشروع قانون إعادة الانتظام المالي.
على أي حال، وقبيل مناقشة المسودّة غدًا، من المهم الإشارة إلى أنّ المشروع نفسه يلحظ عدم وجود أي تدقيق محاسبي شامل، يجرد موجودات وإلتزامات المصارف التجاريّة، لتحديد ما يمكن إعادة هيكلته. ومن المفترض حسب المسودّة المطروحة أن يعيّن كل مصرف، بموافقة لجنة الرقابة على المصارف، أو أن تعيّن اللجنة نفسها، مدققًا لمعاينة موجودات والتزامات المصرف نفسه. وعلى أساس هذا التدقيق، في كل مصرف على حدة، يمكن تمييز المصارف ما بين تلك القابلة لإعادة الهيكلة (أو إصلاح الوضع)، وتلك التي تستدعي التصفية.70% من قيمة الأسهم تآكلترغم عدم وجود تدقيق محاسبي مفصّل، في ميزانيّات كل مصرف، ما زالت أرقام الميزانيّة المجمّعة للقطاع ككل تتيح بعض المعلومات المفيدة، التي تؤشّر على ما يمكن إعادته هيكلته من خلال مسودّة مشروع القانون.
فعلى سبيل المثال، ووفقًا لأرقام الميزانيّة المجمّعة، وحتّى أواخر الربع الثالث من هذا العام، كانت القيمة الدفتريّة لأسهم أصحاب المصارف، أي الرساميل نفسها، قد تراجعت إلى نحو 4.7 مليار دولار، نزولًا من 15.9 مليار دولار في أواخر تشرين الأوّل 2019. أي بمعنى آخر، خسرت الرساميل المصرفيّة حتّى هذه اللحظة 70% من قيمتها الدفتريّة، التي تعبّر عن حقوق أصحاب المصارف داخل مصارفهم. ومن المهم الإشارة إلى أنّ هذه القيمة الدفتريّة، التي تحدد حقوق قانونيّة للمساهمين، تختلف عن القيمة السوقيّة للأسهم، أي قيمة السهم عند تداوله بيعًا وشراءً في البورصة أو السوق المفتوحة.
تراجع قيمة الرساميل المصرفيّة، أو بالأحرى تآكلها، يعود إلى تقاطع عدّة عوامل. فمن ناحية، وبعد رفع سعر الصرف الرسمي المعتمد للتصريح عن الميزانيّات المصرفيّة من 1,507.5 ليرة للدولار إلى 15,000 ليرة للدولار، في أواخر شهر شباط الماضي، كان من الطبيعي أن تتقلّص قيمة الرساميل المقوّمة بالليرة اللبنانيّة، عند تقدير قيمتها بالدولار الأميركي. مع الإشارة إلى أنّ جزءاً معتبراً من هذه الرساميل مقوّم أساسًا بالدولار الأميركي، وخصوصًا بالنسبة للمقدّمات النقديّة التي ضخّها المساهمون في مصارفهم في آخر السنوات التي سبقت الأزمة، وهو ما يحيّد هذا الجزء من الرساميل عن تداعيات تغيّر سعر الصرف.انكماش إضافي سيطرأ على قيمة الرساميلعلى أي حال، من المرتقب خلال الفترة المقبلة أن تشهد الرساميل المزيد من الإنكماش، مع رفع سعر الصرف المعتمد لتقييم الميزانيّات من 15,000 ليرة لبنانيّة للدولار، إلى سعر واقعي ومنسجم مع سعر السوق الموازية، كما يخطط مصرف لبنان. إلا أنّ تقدير قيمة هذا الانكماش قد يكون متعذّرًا اليوم، نظرًا لوجود رساميل مقوّمة بالعملة الصعبة كما أشرنا سابقًا (أي أنّها لا تتأثّر بمسألة سعر الصرف)، فيما تختلف قيمة ونسبة هذه الرساميل بين مصرف وآخر. لهذا السبب تحديدًا، قد يكون من المتعذّر فهم كفاية الرساميل داخل كل مصرف من دون تدقيق محاسبي مفصّل، يعالج كل مصرف كحالة مستقلّة.
في الوقت نفسه، ساهم في انكماش الرساميل المصرفيّة اضطرار المصارف لتخصيص مؤونات معيّنة، للتعامل مع بعض الخسائر الناتجة عن انخفاض القيمة السوقيّة لمحفظة اليوروبوند التي تملكها المصارف، بالإضافة إلى تعثّر بعض القروض الممنوحة للقطاع الخاص. وهذا ما عالجته في وقت سابق بعض التعاميم التي أصدرها مصرف لبنان، والتي حددت نسب المؤونات التي يفترض أن تخصصها المصارف للتعامل مع هذه الخسائر، فيما سمحت هذه التعاميم بتكوين المؤونات بشكل متدرّج وعلى مدى سنوات عديدة.
في الخلاصة، قد يكون من الواضح أنّ صراع المصارف على رساميلها، في سياق السجال حول قانون إعادة الهيكلة، لا يرتبط بالقيمة الفعليّة لهذه الرساميل، التي خسرت أساسًا معظم قيمتها، فيما من المتوقّع أن تخسر المزيد من قيمتها بعد تعديل سعر الصرف المعتمد لتحضير الميزانيّات، وبعد احتساب الخسائر الناتجة عن توظيفات المصارف لدى المصرف المركزي. الصراع على الرساميل، أو على القيمة القليلة المتبقية منها، هو صراع للاحتفاظ بالسيطرة على المصارف. إذ أنّ شطب هذه الرساميل بشكل كامل، واستدعاء عمليّات إعادة رسملة من مساهمين جدد، سيعني عمليًا تغيير الجهة المسيطرة على كل مصرف. ولهذا السبب، تقاتل المصارف للاحتفاظ بما تبقّى من رساميل، وإن عنى ذلك الحفاظ على وضعيّة المصارف الراهنة كمصارف متعثّرة وغير قادرة على تقديم أبسط الخدمات المتوقّعة منها.الودائع والقروض ومحفظة سندات اليوروبوندبعيدًا عن كل النقاش حول إلتزامات الدولة للمصارف، لم تعد قيمة سندات اليوروبوند التي تملكها المصارف اليوم تتجاوز 2.6 مليار دولار، مقارنة بأكثر من 12.2 مليار دولار في أواخر تشرين الأوّل 2019. مع الإشارة إلى أنّ سندات اليوروبوند تمثّل مديونيّة الدولة بالعملة الصعبة، التي ترتّبت بموجب سندات دوليّة متداولة في السوق المفتوحة. أمّا تراجع قيمة هذه السندات التي تملكها المصارف اللبنانيّة، فيعود إلى لجوء المصارف إلى بيع هذه السندات في السوق الدوليّة، منذ أواخر العام 2019، ما جعل الغالبيّة الساحقة من الدين العام بالعملات الأجنبيّة مترتّب لصالح صناديق ومؤسسات أجنبيّة.
على المقلب الآخر، ومنذ أواخر تشرين الأوّل 2019، خسرت الودائع بالعملات الأجنبيّة ما يقارب 32 مليار دولار من قيمتها، لتقتصر حاليًا على نحو 91.7 مليار دولار. أمّا الودائع بالليرة اللبنانيّة، فلم تعد تتخطى قيمتها اليوم حدود 52.3 ترليون ليرة لبنانيّة، أي أقل من 588 مليون دولار بحسب سعر صرف السوق الموازية اليوم. وعلى هذا الأساس، يمكن القول أنّ الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة داخل النظام المصرفي، باتت تحمل تأثيرًا ضئيلًا، مع تراجع قيمتها الفعليّة بحسب سعر السوق اليوم.
أخيرًا، كان من اللافت تضاؤل قيمة محفظة القروض في ميزانيّات المصارف المجمّعة، من 54.2 مليار دولار في أواخر تشرين الأوّل 2019، إلى أقل من 8.7 مليار دولار اليوم، ما يعني أنّ أصحاب القروض سددوا فعليًا أكثر من 46 مليار دولار من الديون المتوجّبة عليهم للمصارف. ومن أصل هذه القيمة، تبرز طبعًا إشكاليّة القروض المدولرة التي تم تسديدها بالليرة، وبسعر الصرف الرسمي، والتي يُنظر إليها كأحد مصادر فجوة الخسائر المتراكمة في القطاع المصرفي.
هكذا، تعطي جردة الأرقام هذه فكرة عن بعض التحوّلات التي طرأت على الميزانيّات المصرفيّة، وعن حجم هذه التحوّلات. إلا أنّ هذه الجردة لا يمكن أن تقدّم الكثير، على مستوى تبيان نسبة المصارف القادرة على الاستمرار في المستقبل، بعد إعادة رسملتها. إذ أنّ هذا النوع من الخلاصات يصعب الحصول عليه من دون تدقيق منفصل لكل مصرف، تمامًا كما نصّ الاتفاق الأوّلي الموقّع مع صندوق النقد منذ أكثر من سنة وثمانية أشهر، وتمامًا كما تنص مسودّة مرسوم مشروع قانون إعادة الهيكلة المطروحة اليوم.