هو قدرٌ لهذا الوطن الصغير أن تستمرَ في حكمه مجموعةٌ من اللصوص والمرتكبين ومنتهكي الدساتير والقوانين؟ بالطبع، هناك الكثير من العوامل المساعدة. موقعٌ جغرافي محفّز لصراعات القوى الكبرى. استعماراتٌ متتالية أقساها للعثماني الذي كرّس عادات التملق للوالي ورشوته للبقاء على الكرسي. غيابُ الدولة وتغييبُها ومن ثم تفكيكها على عتبة حرب ال1975، قبل أن تعود ميليشات الحرب إياها لتستولي على السلطة وتكرِّس أفظعَ الإرتكابات في السرقة والنهب منذ العام 1992.
غير أنَّ كل هذه العوامل "المساعدة"، ليست بالضرورة قدراً نهائياً للبنانيين. في مقابل هذا الكمّ من مجموعات اللصوصية السياسية، توفَرت بعض "الفسحات" من نخبٍ حاكمة لم تتلوث ولم تنغمِس في سرقات ولا في صفقات. لكنَّ الخطابَ الإعلامي والسياسي للمنظومة تعمَّد التعمية على الفتراتِ الذهبية من تاريخِ لبنان، سواء في الماضي، أو على بعض التجارب في الأعوام الأخيرة، كي تبقى الصورة الغالبة هي لنهج التدمير الأبدي للدولة اللبنانية.
كل دوافع الخطر، لم تردَع المنظومة عن الإرتكابات حتى لو في أحلك الظروف. في كل الدول تلتقي المجتمعات على الوحدة والتلاقي على الأمور المصيرية، إلا في لبنان حيث أن الصواريخ والقنابل الإسرائيلية، لا تُثير في "منظومة التماسيح" أيّ قناعٍ للحدِّ الأدنى من الخجل وإخفاء معصياتها.
أول تلك الإرتكابات والبدع، هذا التلاعب بالمؤسسة العسكرية والتشجيع على تجاوز الأنظمة والقوانين، لا بل الأعراف في استمراريةِ القيادة في جسمٍ عسكري اعتاد الإنضباط لا التفلّتَ منه. وبدل الإلتزام بما يمليه قانون الدفاع الوطني، يتلاعبُ ذوو الحساباتِ الصغيرة بالأحلام الرئاسية لمحاولة تمرير بدعة التمديد لقائد الجيش، والتي تتراجع شيئاً فشيئاً، على الرغم من كلّ الدعاية السياسية والإعلامية التي سيقت في الأعوام الأخيرة.
و"منظومةُ التماسيح" هذه، التي من المُفترض أن تدفعَها مخاطرُ الحرب القادمة من الجنوب إلى الضغط لتنفيذ القوانين ولو في شكلٍ عرفي كما تقتضيه الظروف المشابهة، يتمحورُ كل اهتمامها إلى المستفيد الأول من التلهي بالحرب في فلسطين، وهو رياض سلامة "المختفي". تحت جنح الظلام، وكما المجرمين، يعمدون إلى التدقيق في سجلات القضاة ليعثروا على الأكثر خضوعاً وضعفاً، لكي يطوي ملفات التحقيق والإدعاء لا بل "يبيض" صفحة سلامة وارتكاباته مع المنظومة. وليس أفضل من تلهي اللبنانيين وطبقتهم السياسية بالمخاوف من الحرب الإسرائيلية واحتشاد السفن الأميركية والصواريخ والمسيّرات اليمنية، ليمرروا مَعصياتهم أمام شرائح بمعظمها غافلة عن همومها الحقيقية.
وبغض النظر عن مدى صحة انزلاق وزارة الإتصالات إلى فضيحة جديدة في ملف البريد، غير أن الصورة العامة للردود والردود المضادة، لا تمنح حكومة ميقاتي ووزير الإتصالات خاصة، الصورة الناصعة أبداً في ظل الضجيج حول مسألة المناقصة. وطالما أنه لا قرار واضحاً في هذا الشأن بعد محاولة اللفلفة من حكومة تصريف الأعمال، فإن الشكوك سوف تبقى تحوم فوق رؤوس المعنيين وتفضح رداءة الطبقة الحاكمة اللبنانية.
من الأكيد أن التجربة منذ 1992 كمثال لمنظومات النهب في العالم، ستُدرَّس كتجربة فارقة من "الدول الفاشلة". غير أن ما سيحيّر أكثر لا حجم السرقة، ولا تجذره، بقدر ما سيكونُ صمتَ مجتمعٍ بعضه متواطئ، وعبثيةَ من تنطحوا يوماً لما سُمي بهتاناً ب"ثورة"!
*رئيس تحرير tayyar.org