لا زلت أذكر حديث والدي، حين أخبرني – ونحن في طريقنا من الشريط الحدودي المحتل إلى مدينة صيدا قبيل تسعينيات القرن الماضي – كيف قام سكان بعض القرى في الجنوب بنثر الأرز على جنود الإحتلال وهم يمرّون بقوافلهم العسكرية نحو بيروت.. آنذاك كانت المناشير الإسرائيلية تملأ الشوارع وهي “تبشّر” الناس بأن “إسرائيل أتت لتخلصهم من المخربين (الفلسطينيين)”.. لا أنسى ابتسامته الحزينة – وهو الذي استشهد برصاص أحد العملاء على أحد معابر القهر – حين قال: ليت كان ذاك الأرز رصاصاً حتى لا ننعم بالخلاص الزائف.
منذ ذلك الحين وحتى اليوم، في لبنان وسوريا أو في فلسطين والأردن أو في ليبيا ومصر والعراق، وفي كل مكان امتدت إليه يد القتل الإسرائيلية لتغتال مسؤولاً فلسطينياً أو ترتكب مجزرة في المناطق الآهلة بالمدنيين، كانت الذريعة أن “إسرائيل” تريد اجتثاث السلاح الفلسطيني حتى تعيش هي بـ “سلام”، أما باقي الناس فهم “حيوانات” لا يستحقون العيش.. هكذا عبّر مسؤول إسرائيلي في وصف الفلسطينيين في قطاع غزة، وهكذا ترانا الولايات المتحدة الأمريكية أيضاً، وهي كانت ولا تزال تساوم على رؤوسنا كرمى لعيون “إسرائيل”.
سألني أحدهم: ما لنا ولفلسطين؟ لماذا دائماً نحن ندفع الثمن؟ أين العرب والمسلمون ليدافعوا عن القدس والأقصى؟ فأثار في داخلي ذكرى أخرى تعود إلى الإجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982، يومذاك حذّر مناحيم بيغن العرب من مغبّة التدخّل وإلا سيواجهون تجربة الهزيمة حين انكسرت جيوش ثلاث دول عربية أمام “إسرائيل”، فانزوى العرب بمواقف الإدانة ومناشدة أمريكا وقف تدمير لبنان، أما الحكم في لبنان فاستسلم بذريعة التمزّق والضعف نتيجة الحرب الأهلية، فسقطت بيروت عاصمة العرب تحت الاحتلال، وتم ترحيل مقاتلي منظمة التحرير إلى منافي العرب، ونُصّب بشير الجميل رئيساً في ظل الدبابات الإسرائيلية، وبذلك انتقل لبنان في العهد الإسرائيلي إلى مرحلة الاستثمار السياسي لجعله حديقة خلفية ينطلق منها لتعميم تجربة “كامب دايفيد”.
السؤال هو نفسه الذي طالما برّر “سياسة الحياد”، حيّدوا لبنان عن صراع الكبار .. فماذا كانت النتيجة؟ هل أنتجت هذه السياسة استقراراً للبلد، أم أدخلته في حظيرة الاستضعاف، وفتحت المجال لسرقة مقدّراته ومياهه وقطع سبل الاستفادة من موارد الطاقة لديه؟ إنهم لا يريدون الاستقلال للبنان كدولة لها قرارها السيادي، بل يريدونه كياناً تابعاً ومساحة استغلال، ولكنهم على مدى أربعين عاماً لم يستطيعوا أن يفرضوا هذه المعادلة بقوة المقاومة، لم ترتح “إسرائيل في احتلالها وخرجت صاغرة من بيروت، وانسحبت إلى الجنوب في العام 1985 ومن ثم اندحرت من كل لبنان في العام 2000، وانهزمت في الأعوام 1993 و1996 و2006، وكل ذلك بفعل المقاومة، وفي كل محطة من هذه المحطات كان لبنان بشعبه وجيشه ومقاومته يقوى أكثر، واستطاع أن يشكّل طوق حماية لاجتياح الدواعش التكفيريين، وراكمت هذه المقاومة قوة الردع لديها بشكل متعاظم، حتى بات العالم كله يحسب له ألف حساب.
واليوم مع معركة “طوفان الأقصى” هل بات لهذا السؤال مكان؟ وهل يصح اعتماد “الحياد” كسياسة تبرّر دفن الرؤوس في الرمل؟ وهل تحمل هذه السياسة حبل إنقاذ وطوق النجاة للبنان وفلسطين من أي عدوان إسرائيلي أو غير إسرائيلي؟ جاءت أساطيل البوارج وحاملات الطائرات الأمريكية إلى مياه البحر المتوسط لتحمي “إسرائيل” وجنرالات الحرب فيها من السقوط، ولكنها لم تفلح حتى الآن – على الرغم من المجازر البشعة التي أودت بعشرات الآلاف من الشهداء والجرحى في قطاع غزة- في أن تكسر شوكة المقاومة الفلسطينية أو تتقدّم أمتاراً معدودة، فيما عين الاحتلال شاخصة إلى الحدود الشمالية مع لبنان، حيث سحبت المقاومة في لبنان أكثر من ثلث الجيش الإسرائيلي وأبقت جنوده يجثون على “إجر ونص”، واصطادت حتى الآن أكثر من 120 قتيلاً وجريحاً، ودمرت عشرات الآليات من دبابات وناقلات جند، وأعمت عيون المراقبة وأجهزة الرصد لديه، وحوّلت جنود الاحتلال كما لو أنهم في قنّ الدجاج وساحة لتدريب الرماية.
ليس هناك حرب بلا ثمن، سواء في الأرواح أو الممتلكات أو الأرزاق، ولا شك في أن الأثمان التي دفعها لبنان كما فلسطين وسوريا خلال سنيّ المواجهة باهظة من حيث الشكل، ولكنها تبدو بسيطة إذا ما قيست بالنتائج، فها هي “إسرائيل” ومعها أمريكا مردوعة وحائرة في كيفية وقف الحرب والخروج بأدنى قدر من ماء الوجه لتبادر إلى إطلاق مفاوضات لا تكون فيها بيد مكسورة، ويكفي أن نستمع إلى ما يعترف به مسؤولو “إسرائيل” ومحلّلوها الإعلاميون والاستراتيجيون، لنعرف كم هو عظيم أن تصمد وتقاوم وتمتلك قرارك عزيزاً، بدل أن ترهن مصيرك للعدو وتعيش ذليلاً.