«أسطورة برومثيوس».. هكذا بدأ المخرج كريستوفر نولان فيلمه المثير للجدل «أوبنهايمر»، بمقولة عن أسطورة أحد أشهر الآلهة الإغريق في التاريخ، الذي قام بسرقة النار من جبال الأوليمب وأهداها للبشر من أجل أن يقاوموا الطبيعة القاسية لفصل الشتاء، وأيضا لتحضير الطعام وصهر الحديد.
ومقابل هذه الهدية المقدسة للبشر تم لعن «برومثيوس» للأبد وتعذيبه بأشنع عذاب عرفته أساطير اليونان، فقد قام «زيوس» كبير الآلهة في الأوليمب بربطه إلى صخرة عظيمة حتى يحضر طائر عملاق ليلتهم أحشاء «برومثيوس»، ولم يتوقف العذاب عند هذا الحد، بل جعل أحشاءه تنبت من تلقاء نفسها كل ليلة، لتستمر معاناته للأبد.
ولم يكتف البشر باستخدام النيران للتدفئة وطهي الطعام وصهر المعادن بل صنعوا منها الأسلحة، وأحرقوا بها القرى والغابات واستخدموها في الحروب والقتل، فهل ضاعت تضحية «برومثيوس» هباء؟!
يحكي الفيلم قصة «جوليوس روبرت أوبنهايمر» العالم الفذ الذي ينسب إليه اختراع القنبلة الذرية، وبما أننا نتحدث عن فيلم من إخراج وتأليف كريستوفر نولان، فيمكنك توقع السرد غير الخطي دون أدنى شك، والذي يعني أن القصة تدور بشكل معقد لا يعرف بداية ولا نهاية، تتقاطع فيه الأحداث باستمرار مع الأحلام والذكريات والهلاوس.
إنه أسلوب نولان المفضل والذي ميزه عن أي مخرج آخر في عصره، فلقد قدم نولان سردا متشابكا لقصة «أوبنهايمر»، وهي مزيج مربك من الأحلام والخيال، الواقع والحقيقة، الماضي والحاضر والمستقبل، لكن البطل الحقيقي الدائم كان وجه «أوبنهايمر» المعذب.
تتعقب القصة «أوبنهايمر» عبر عقود بدءا من عشرينيات القرن الماضي كشخص بالغ، ويستمر حتى أصبح شعره رماديا، وتتطرق كذلك إلى حياته الشخصية والمهنية، بما في ذلك عمله في القنبلة وحياته الشخصية كرجل طائش خائن لزوجته، وخلافه مع «ستراوس» والصراع النفسي العاطفي الذي عانى منه، مع رصد أهم محطات حياته وتقديمها عبر جدولين زمنيين.
القصة لا تتطور تدريجيا في هذا العمل، إذ إن نولان يرمي بنا فجأة في دوامة حياة «أوبنهايمر» بمشاهد حية له خلال فترات مختلفة، في تعاقب سريع لا نكاد نستطيع التقاط أنفاسنا معه، ولو كنت تتوقع فيلما عن القنبلة الذرية ومشاهد حربية وتفجيرات وشرحا مفصلا يبرر إلقاء القنبلة على اليابان، فأنت ستدخل الفيلم الخطأ، فهذا الفيلم لا يهتم بالقنبلة بقدر ما يهتم بأبيها الروحي، فالفيلم يقدم في أكثر من ثلاث ساعات حكاية الصراع النفسي الذي عاشه روبرت أوبنهايمر والذنب الذي تآكله بعدما رأى ما فعله اختراعه، والهواجس التي عاشها طويلا وطرح سؤالا وجوديا لا يزال دون إجابة حتى يومنا هذا، هل كان إلقاء القنبلة ضروريا حقا؟ لكنه كأي فيلم عظيم لا يقدم الإجابة، الإجابة عندك أنت.