عن غزة وسياسات الإماتة
2023-10-21 14:38:58
في العام 2003، كتب المفكر الكاميروني أشيل مبيمبي مقالاً قصيراً بعنوان "سياسات الإماتة"، عبّر فيه عن قلقه بشأن "تلك الأشكال من السيادة التي لا يتمثل مشروعها المركزي في النضال من أجل الحكم الذاتي، بل في تعميم الوجود الإنساني والتدمير المادي للأجسام البشرية والسكّان. يوسّع مبيمبي مفهوم ميشال فوكو للسياسة الحيوية، ليشمل أشكال العنف الموجّهة بشكل واضح نحو الموت. بالنسبة لمبيمبي، أحد أهمّ المثقفين الفرانكفونيين في أفريقيا، والاسم البارز في دراسات "ما بعد الاستعمار"؛ تُمارس سياسات الإماتة في سياقات مختلفة، بدءاً من العلاقات الاستعمارية وحتى الممارسات المعاصرة في مناطق الحرب ودوائر الصراع.يكتب مبيمبي من دون عبارات مُلطَّفة، ما تحاول النخب الغربية المتحمّسة والمثقفة إنكاره وإهماله بشأن ما يحدث للفلسطينيين في أرضهم: "يختلف الاحتلال الاستعماري المتأخر في جوانب عديدة عن الاحتلال الحديث الأول، لا سيما في مزيجه من الضبط والسياسة الحيوية وسياسات الإماتة. إن الشكل الأكثر نجاحاً لسلطة الإماتة هو الاحتلال الاستعماري المعاصر لفلسطين".(مبيمبي: الشكل الأكثر نجاحاً لسلطة الإماتة هو الاحتلال الاستعماري المعاصر لفلسطين)وبالفعل، ما تمارسه دولة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين ليس سوى سياسة إماتة تهدف لإبادة شعب الأرض الأصلي وإحلاله بشعب مستوطِن مهاجر. في مقاله - المنشور زمن احتلال إسرائيل لقطاع غزة - يوضّح مبيمبي ممارسات سلطات الإماتة التي تستخدم القوة الاجتماعية والسياسية لإملاء الطريقة التي يجب أن يحيا بها البعض وكيف يجب أن يموت البعض الآخر: "بالعودة إلى قراءة فرانز فانون المكانية للاحتلال الاستعماري، فإن احتلال قطاع غزة يقدّم ثلاث خصائص رئيسة مرتبطة بأداء بنية محدِّدة للإرهاب، والتي أسميتها "سلطة إماتة" necropower. الأول هو ديناميات تجزئة الأرض، وحظر الوصول إلى مناطق معينة، وتوسيع المستوطنات. الهدف من هذه العملية ذو شقين: جعل أي حركة مستحيلة وتنفيذ العزل على منوال دولة الفصل العنصري. وهكذا تنقسم الأراضي المحتلة إلى شبكة معقدة من الحدود الداخلية وعدة خلايا معزولة. ووفقاً لإيال وايزمان [معمار إسرائيلي]، من خلال الابتعاد عن التقسيم المسطّح للأراضي واعتماد مبدأ إنشاء حدود ثلاثية الأبعاد داخلها، فإن التشتّت والتجزئة يعيدان بوضوح تحديد العلاقة بين السلطة/السيادة والفضاء المكاني".استناداً إلى كتاب للصحافية الإسرائيلية، عميرة هاس، بعنوان "شُرب البحر في غزة: أيام وليالي في أرض تحت الحصار"، والمنشور في 1996، يصف أشيل مبيمبي مأساة غزة: "إن العيش في ظلّ الاحتلال المعاصر يعني اختبار حالة دائمة من "العيش المؤلم" ضمن هياكل محصَّنة ومواقع عسكرية وحواجز طرق في كل مكان؛ مبانٍ تثير ذكريات مؤلمة من الإذلال والاستجواب والضرب؛ وحظر تجوّل يحبس مئات الآلاف في منازلهم الضيقة كل ليلة من الغسق حتى الفجر؛ جنود يقومون بدوريات في شوارع مظلمة، خائفين من ظلالهم؛ أطفال يصابون بالعمى بسبب الرصاص المطاطي؛ إذلال آباء وضربهم أمام عائلاتهم؛ جنود يتبوّلون على الأسوار، ويطلقون النار على خزانات المياه من فوق أسطح المنازل من أجل المتعة فحسب، ويردّدون شعارات مسيئة، ويطرقون على أبواب الصفيح الواهية لإخافة الأطفال، ويصادرون الأوراق أو يلقون القمامة وسط حي سكني؛ حرس حدود يدمّرون كُشك خضار أو يغلقون الحدود دون سبب؛ عظام مهشَّمة؛ إطلاق نار ووفيات... نوع معيّن من الجنون".
(عميرة هاس:الكتل الاستيطانية اليهودية مسمار في نعش الدولة الفلسطينية المجاورة)عميرة هاس، اليهودية الطيّبة، ابنة لأبوين نجيا من المحرقة النازية، قدّمت في كتابها وصفاً مفصلاً لما كان يحدث في التسعينيات في فلسطين، وخاصة في قطاع غزة. الوصف الذي تورده عن أوضاع غزة في أواخر القرن الماضي مفيد وكاشف ولا يتطلّب أي تعليقات إلا لبيان أن ما حدث بعد انسحاب إسرائيل من القطاع في 2005 وما تلاه من حصارها الكامل له ليس سوى استكمال لنهج استعماري إحلالي يستهدف في المقام الأول حملَ الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال إلى الكُفر بالحياة ودفعهم دفعاً نحو الموت. ولهذا أنقل مقتطفات من خاتمة كتابها المهمّ:"[...] بحلول العام 1996، انخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في غزة بنسبة 37 بالمائة منذ العام 1992؛ انخفض إجمالي الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 18.5 في المئة. وفي ستة أشهر ارتفعت نسبة البطالة بنسبة 8.2% لتصل إلى 39.2%. وشهد سكان غزة الذين كانوا محظوظين بما فيه الكفاية للعمل في القطاع انخفاضاً بنسبة 9.6 في المائة في الأجور الحقيقية في العام 1995. وخسر أولئك الذين عملوا في إسرائيل 16 في المائة من أجورهم. ومما لا شك فيه أن سياسة الإغلاق الإسرائيلية هي المسؤولة عن هذه الأعداد المروّعة. ومن الصعب تخيُّل أن صنّاع القرار في إسرائيل لم يدركوا العواقب الحتمية المترتبة على فرض ما يعتبر في الواقع حصاراً دام سنوات طويلة. وكما رأينا، فإن إسرائيل تفسّر عمليات الإغلاق ببساطة باعتبارها ردّ فعل لا مفرّ منه على الإرهاب وباعتبارها الطريقة الوحيدة لمنع المزيد من الهجمات. لكن التحليل الدقيق لهذه السياسة وعواقبها - إلى جانب التدابير الإسرائيلية الأخرى المتخذة في سياق اتفاقيات أوسلو، مثل إغلاق طريق المرور الآمن بين غزة والضفة الغربية - يشير إلى فهم مختلف لعمليات الإغلاق"."[...] بدأت الحكومة [الإسرائيلية] في تنفيذ خطة قديمة لربط مستوطنات الضفة الغربية بإسرائيل من خلال شبكة من الطرق السريعة. وفي اللغة الجديدة لأوسلو، أصبحت هذه الطرق "طرقاً التفافية"؛ قطع إسفلتية واسعة وعالية السرعة من شأنها، كما تقول إسرائيل، أن تضمن سلامة وحرية حركة المستوطنين اليهود. وقد أدّى مشروع البناء الضخم هذا إلى مصادرة وتدمير آلاف الهكتارات من الأراضي الفلسطينية المزروعة، وغيّر إلى الأبد النسيجَ الطبيعي الذي يربط بين مدن وقرى الضفة الغربية. وقد تمّ الحصول على الموافقة الفلسطينية بسهولة، ويبدو أن الطرق الفرعية صُمّمت لزيادة نجاح المرحلة المؤقتة، وحماية المستوطنين اليهود، وبالتالي السماح لجميع الأطراف بالوصول إلى طاولة المفاوضات دون الكثير من الحدّة"."إن شبكة الطرق الثانوية، التي تكلّف بناؤها مليارات الشواكل، حصرياً لاحتياجات الأقلية اليهودية الصغيرة، ستلعب دوراً هاماً في مفاوضات إسرائيل حول الاحتفاظ بالأراضي. ومن يستثمر ثروة في الطرق لا ينوي تفكيك المجتمعات التي تستخدمها. علاوة على ذلك، فإن هذه الشبكة، التي تضمن للمستوطنين اليهود في الضفة الغربية وقطاع غزة شريان حياة آمن وسريع لإسرائيل، أُنشئِت في الوقت ذاته الذي فُرضت فيه قيود أكبر على حرية حركة الفلسطينيين"."صحيح أنه منذ العام 1994، أصبحت المزيد من الأراضي خاضعة للسلطة الفلسطينية، ولكن الكتل الاستيطانية اليهودية وخليط الطرق الجديدة هي في الواقع مسمار في نعش الدولة الفلسطينية المجاورة، أياً كان شكلها. هذه الجغرافيا الجديدة تعني أن المجتمع الفلسطيني سيتجزّأ ويتقسّم إلى جيوب معزولة؛ حجم هذه الجيوب وقربها لم يتحدّد بعد، وسيتم تحديدهما من خلال قوة الموقف التفاوضي للفلسطينيين، لكن التنقّل بين الجيوب سيتطلّب دائماً المرور بحواجز طرق ونقاط تفتيش يحرسها جنود إسرائيليون. وفي الضفة الغربية، تضرّرت الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية بالفعل بسبب تجزئة المنطقة، وخاصة بسبب فصل الشمال والجنوب إلى منطقتين منعزلتين. ولكن بالنسبة للنموذج الحقيقي للمستقبل، فلا يحتاج المرء للنظر أبعد من قطاع غزة، ذلك الجيب المطوّق البالغة مساحته 147 ميلاً مربعاً".أهدي هذه المقاطع من كتابات أشيل مبيمبي وعميرة هاس إلى جميع الأشخاص الذين، على الرغم من إدعائهم الإيمان بالديمقراطية ومناهضة للعنصرية، ينظرون بتعاطف إلى تصرفات دولة الاحتلال الإسرائيلي أو يستنكرون ما يسمّونه "خفوت الأصوات الغربية الداعمة لإسرائيل"، أو حتى من العائشين بيننا في منطقتنا يرطنون ويلوكون كلاماً خائباً وقاصراً عن مسؤولية "حماس" أو رعونتها أو ما شابه. ما تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين هو أنجح أشكال سياسات الإماتة، في حين لا يزال الخطاب الغربي ثابتاً على التعسكر في الجانب الإسرائيلي و"مواساتها" بحجة حقّها في الدفاع عن نفسها، معطوفاً على الاستقواء بعقدة الذنب الأوروبية تجاه اليهود، مثلما لحسابات سياسية في استحقاقات إنتخابية مرتقبة، أو اندماجاً في استقطاب عالمي متعدد الأسباب والدوافع. عماء إنساني وانحطاط أخلاقي يكشفان ما وصل إليه حال العالم "المتحضّر" و"الحرّ" إذ يتبنّى ويدافع عن أحقر كيان سياسي عرفه العالم الحديث.
وكالات