العالم مصدوم، والغضب شامل كلّ الأرجاء العربيّة والدوليّة، جرّاء المجزرة التي ارتكبت بحقّ الأبرياء في المستشفى الأهلي المعمداني في غزة، الّا انّ هَول هذه المجزرة الفظيعة يفوقه هول تجهيل الفاعل، وتنَصّل اسرائيل منها.
لبنان بكلّ مستوياته، تضامنَ من ضحايا المجزرة، بمسيرات وتظاهرات وتجمعات واحتجاجات في مختلف مناطقه، وأكد وقوفه الى جانب الشعب الفلسطيني مُندداً بحرب الإبادة الجماعيّة التي تشنّها اسرائيل على قطاع غزة، ومُستنكراً الغطاء الدولي الذي يبرر لإسرائيل ما يسميه «حقها في الدفاع عن نفسها»، وكأنّه بذلك يمنحها إجازة مفتوحة لضرب كلّ النداءات العربية والدولية لوقف هذه الحرب عرض الحائط، والمضي في ارتكاب المزيد من المجازر.
وضمن هذه الإجازة الدولية الممنوحة لإسرائيل، التي توّجها الرئيس الاميركي جو بايدن بتبرئتها من قصف المستشفى المعمداني وإلقاء المسؤولية على من سمّاه الجانب الآخر، دخلت الحرب الاسرائيلية على غزة يومها الثاني عشر، بوتيرة العنف ذاتها، والقصف المركّز وبشدة على الأهداف المدنيّة، فيما مساحة المخاوف تتسِع يوماً بعد يوم من أن تَنزلق المنطقة برمتها إلى سيناريوهات كارثية، تبعاً لما تبيّته اسرائيل لقطاع غزة، سواء بتغيير معالمه، او تفريغه من سكانه. وانظار العالم كله شاخصة نحو جبهة الجنوب اللبناني، التي انضبَطت منذ بداية هذه الحرب على وقع العمليات العسكرية المتلاحقة يومياً على طول الحدود.
مخاطر أكبر
وقال مسؤول كبير لـ«الجمهورية»: «نحن أمام عالم سقطت فيه كلّ القيَم، يتفاخرون بالحرية وحقوق الانسان، فيما هي وهم، وتصبح باطلة المفعول عندما تتعلق بالشعب الفلسطيني. ومن هنا لست متفاجئاً ابداً من تبرئة اسرائيل من مجزرة مستشفى المعماري، اذ كيف لمن يرعى هذه الحرب ويديرها ويسلحها أن يدين نفسه؟».
وأضاف: «حضر الرئيس الاميركي في زيارة تضامن مع اسرائيل، من دون ان يحثّها على وقف عدوانها، بل قال للاسرائيليين أنتم لستم وحدكم، وكأنه يقول لهم استمرّوا في حربكم. ومن هنا، اعتقد انّ الوضع في غزة ما بعد هذه الزيارة، سينحدر نحو مخاطر اكبر ليست فقط على الشعب الفلسطيني في غزة، بل على المنطقة. خصوصاً انّ اسرائيل لم تخف هدف حربها بإفراغ غزة من اهلها بشكل نهائي».
تحذير غربي
وعلى خط مواز، وتزامناً مع وجود مسؤولَين في وزارة الدفاع البريطانية في بيروت. كشفت مصادر سياسية موثوقة لـ«الجمهورية» انّ رسائل عاجلة نقلتها الى بيروت جهات أمنية غربية، بضرورة أن تتخذ الدولة اللبنانية اجراءات عاجلة لتأكيد التزامها بالقرار 1701، ومنع الخروقات للحدود الجنوبية. وبحسب المعلومات فإنّ تلك الرسائل التي تغلّفت بالحرص على امن لبنان واستقراره، انطوَت على تحذير واضح من ان مبادرة «حزب الله» الى إشعال الجبهة الجنوبية قد تخلق واقعا عسكريا يخرج عن السيطرة، وتترتّب من جرّائه عواقب وخيمة على لبنان».
ولفتت المصادر الى ان الموقف اللبناني جاء تأكيدا على التزام لبنان بالقرارات الدولية لا سيما القرار 1701، ومشددا على ان الجيش يقوم بدوره كاملا في هذا المجال وهو على تنسيق عال مع قوات اليونيفيل في منطقة عملها، ومؤكداً في الوقت نفسه على انه من الضروري جداً ان كانت ثمة رغبة بالامن والاستقرار، النظر اولاً الى عامل التفجير الاكبر والاخطر الذي تمثّله اسرائيل، وخروقاتها المستمرة للقرار 1701، الذي تعدّ بالآلاف من دون أن تلقى رادعاً من اي طرف دولي.
إستبعاد الجبهة الجديدة
في هذه الاجواء المُحتدمة جنوباً، ابلغت مصادر حزبية الى «الجمهورية» قولها ردا على سؤال عن احتمالات فتح الجبهة الجنوبية: «كل شيء وارد، ولكن من المستبعد ان تنزلق الجبهة الجنوبية الى تدهور واسع في الوقت الراهن، فالعمليات التي تحصل مدروسة ومحددة وتوجِع العدو بدقتها ونوعيتها، فضلاً عن انها حققت هدفاً كبيراً جداً، بإرغام العدو على إخلاء مستوطناته بالكامل، يعني انه ذاق طعم التهجير. الا اذا اراد العدو ان يوسّع نطاق الحرب، مع اننا نشكّ في قدرته على تَحمّل جبهتين في آن واحد، فعندها ستأخذ الامور منحى آخر».
تقديرات «الحزب»
وعلمت «الجمهورية» من مصادر مطلعة على تقديرات «حزب الله» لسير المعركة، انه يقوم بتجميع كل المعطيات وباتت لديه معطيات مهمة لمسار الأمور، لكنه يحتفظ بها لنفسه ويعلن عنها في الوقت المناسب «لأننا في حالة حرب وليس خلاف حول موضوع لبناني داخلي»، و»الحزب» يعلم ماذا يفعل، ويقوم بتوجيه ضرباته يوماً بيوم الى مواقع العدو الإسرائيلي حسب مقتضيات الوضع.
وأوضحت المصادر أن أجوبة الحزب على الأسئلة التي توجه اليه سياسياً وإعلامياً متروكة للميدان الذي يتكلم عنها. وأن لا إطلالة قريبة للأمين العام السيد حسن نصر الله.
وكشفت المصادر أن عدد شهداء «الحزب» منذ بدء المواجهة 11 شهيداً، لكن في المقابل خسائر العدو كبيرة، ويكفي أن مستشفى نهاريا لوحده أعلن في بيان رسمي «أنه تم التعامل مع 160 حالة بين قتيل وجريح منذ بدء الحرب في الجبهة الشمالية».
إستنكار واستغراب
إلى ذلك، استنكرت مصادر سياسية وسطية ما سمّته «النفخ بالنار لإشعال جبهة لبنان»، وقالت لـ«الجمهورية»: «كأنّه لا يكفي الشعب اللبناني حال القلق التي يعيشها، ليأتي البعض ويلعب بمصيره. سواء ما صدر عن الايرانيين لناحية فتح جبهات اضافية مع اسرائيل، او بالنسبة الى ما قاله مسؤول «حماس» في الخارج خالد مشعل، الذي لا يبدو راضياً على ما قام به «حزب الله» من عمليات على الحدود وصَفها بالمحدودة والمتردّدة، فذهبَ الى دعوة الحزب للقيام بمغامرات. فكل هذا الكلام مستغرب لا بل مرفوض، خصوصاً انّ كل المنطقة امام لحظة مصيرية، مهدّدة بسيناريوهات خطيرة، ولبنان بحالته الراهنة أضعَف من أن يتحمّل تبعات ونتائج وآثار أي حرب يكون طرفاً فيها».
في هذه الأجواء، التقى وزير الخارجية في حكومة تصريف الاعمال عبدالله بوحبيب، في جدة أمس، وزير الخارجية السعودية فيصل بن فرحان، واكد خلال اللقاء ان لبنان يعوّل على دور المملكة المحوري لإعادة التوازن للشرق الاوسط. كما التقى وزير خارجية ايران حسين امير عبداللهيان، واعربَ بعد اللقاء عن قلقه «من غياب الضغط الدبلوماسي الغربي الجدي على اسرائيل لوقف التصعيد».
الإحتجاجات
وشهدت المناطق اللبنانية، امس، سلسلة تحركات احتجاجية، كان البارز فيها في فترة بعد الظهر، التجمّع امام السفارة الاميركية في عوكر، الذي اتسَم بالتصعيد، ومواجهات بين المحتجين والقوى الامنية، بعد محاولتهم إزالة العوائق والحواجز الحديدية، وهو الامر الذي أدى الى تدافع ومشاحنات، استخدمت خلالها القوى الامنية خراطيم المياه والقنابل المسيلة للدموع لتفريق المحتجّين، الذين أطلقوا هتافات تضامن مع الشعب الفلسطيني وقطاع غزة، ونَددوا بالجرائم الاسرائيلية، وبالموقف الاميركي الداعم لها، فيما عَمد بعضهم لليوم الثاني على التوالي على تخريب بعض الاملاك الخاصة.
يأتي ذلك، في وقت رفعت فيه وزارة الخارجية الأميركية مستوى تحذيرها من السفر إلى لبنان إلى «عدم السفر»، مشيرة إلى الوضع الأمني المتعلّق بتبادل الصواريخ والقذائف والمدفعية بين إسرائيل و«حزب الله». كذلك سمحت بالمغادرة الطوعية والموقتة لأفراد عائلات موظفي الحكومة الأميركية وبعض الموظفين غير العاملين في حالات الطوارئ من السفارة الأميركية في بيروت، بسبب الوضع الأمني الذي لا يمكن التنبؤ به في لبنان».
وتبعتها السفارة الفرنسية بإعلانها انه «نظراً للتوترات الامنية في المنطقة، وبخاصة على الحدود الجنوبية للبنان، لا نَنصح الفرنسيين الذين يرغبون في زيارة لبنان والاقامة فيه بالذهاب الى هذا البلد، الّا لأسباب مُلحّة». ثم تلتها السفارة السعودية التي دعت «كافة المواطنين السعوديين الى التقيّد بقرار منع السفر ومغادرة الاراضي اللبنانية بشكل فوري لِمن هو متواجد في لبنان حالياً. كما انها تدعو المواطنين المتواجدين في لبنان الى توخّي الحيطة والحذر والابتعاد عن الاماكن التي تشهد تجمعات او تظاهرات الى حين مغادرتهم».
«حزب الله»
وتضامناً مع غزة واستنكاراً للجرائم الإسرائيلية، نظّم «حزب الله» سلسلة تحركات وتجمعات في الضاحية الجنوبية والجنوب والبقاع، كان البارز فيها التجمع الحاشد في حارة حريك، وتحدث فيه رئيس المجلس التنفيذي في الحزب السيد هاشم صفي الدين، الذي دانَ المجزرة واعتبر أنّ «السبب في إراقة دماء الشعوب هو الولايات المتحدة الأميركية ومعها الغرب».
وحملَ صفي الدين بعنف على الولايات المتحدة، وتوجه الى الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو والاوروبيين بالقول: «إنّ مشروع تهجير أهل غزة لن يمر». مضيفاً: «إن كنتم تحذروننا فإنّ جوابنا لكم أنه عليكم أن تحذروا منّا، فالخطأ الذي قد ترتكبونه مع مقاومتنا سيكون الجواب عليه مدويًا وصاخبًا، وما عندنا هو أقوى ممّا عندكم بكثير، وما لدينا هو أكثر مما لديكم. وفي يوم من الايام جئتم الى لبنان ببوارجكم وكان قرارنا المواجهة، وحين واجَهناكم فَررتم من لبنان كالفئران. ونحن ما زلنا المقاومة الحاضرة والقوية بل نحن اليوم أقوى بآلاف المرات وحذار أن تخطئوا».
ميقاتي
وظهر أمس، شارك رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي في الوقفة التضامنية أمام وزارة الصحة استنكاراً وادانة للمجزرة الاسرائيلية في مستشفى المعمداني. وفي كلمة له سأل: أين هي الامم المتحدة مما يجري؟ أين مجلس الامن؟ أين شرعة الامم المتحدة؟ ما يحصل هو سيطرة لشريعة الغاب والقوي يقتل الضعيف من دون خوف، والمجتمع الدولي ينظر الى ما يحصل من دون ردة فعل، لا بل يقف مع الجلّاد. هذا الأمر يجب وضع حد له، وهذه هي رسالتنا للعالم من باب التمسك بالقيم الانسانية والحفاظ على النظام العالمي الذي تعلّمنا أنّ أساسه العدالة، ولسوء الحظ فهذه العدالة تُضرَب اليوم في الصميم».
«حماس»
وفي مؤتمر صحافي عقدته حركة «حماس» في نقابة الصحافة، دعت في بيان تلاه القيادي في الحركة اسامة حمدان الى «الوقف الفوري للعدوان الصهيوني على شعبنا في قطاع غزة، وعلى دولنا وأمتنا العربية والاسلامية». وطلبت من «أحرار العالم التحرّك الجاد والمستمر لوقف حرب الابادة الجماعية».
الوضع الميداني
أمنياً، أجواء التوتر ظلت مسيطرة أمس على المنطقة الحدودية، مع استمرار العمليات العسكرية والقصف الاسرائيلي على محيط بعض البلدات الجنوبية، حيث أفيد عن قصف اسرائيلي مركّز على محيط بلدات عيتا الشعب والضهيرة وميس الجبل وسهل الخيام وتلة الحمامص وحانين، ورامية واللبونة. وأفيد عن إصابة مزارع لبناني بجراح في احد الحقول في خراج بلدة عيترون بعد إطلاق النار عليه من موقع «المالكية» الإسرائيلي الحدودي، وتسبب القصف الاسرائيلي ايضاً باندلاع حريق. كما تعرضت للقصف الاسرائيلي اطراف كفرشوبا، مزرعة بسطرا، واطراف حلتا والهبارية والفرديس. وكانت المنطقة ما بين سهل الخيام وتلة العباد مروراً بتلال العديسة قد شهدت ليلاً اشتباكات عنيفة بين عناصر من «حزب الله» والجيش الاسرائيلي استُخدمت فيها القذائف الصاروخية الموجهة التي أصابت المواقع الاسرائيلية إصابات مباشرة. كما افيد عن سقوط صاروخين في مستوطنة كريات شمونة.
وفي بيان لها، اعلنت المقاومة الاسلامية عن إصابة دبابة ميركافا في موقع الراهب ما أدى إلى قتل وجرح طاقمها. واستهداف مركز تجمّع لجنود الاحتلال ومنظومة مراقبة واستطلاع في تلة الطحيات جنوب المنارة ومواقع المالكية وجل العلام وثكنة زرعيت وموقع البحري الواقع مقابل رأس الناقورة. وقد أدى القصف الى تعطيل أبراج التجسس والمراقبة داخل الموقع، الذي تصاعدت منه أعمدة الدخان.
إخلاء المستوطنات
وفيما سُمعت صفارات الإنذار في المستوطنات القريبة من الحدود، ذكر الإعلام الإسرائيلي أنّ جيش الإحتلال طلبَ مجَدّداً من سكان مستعمرة المطلة وباقي المستعمرات الشمالية في الجليل الأعلى المُغادرة فوراً او التزام الملاجىء خوفاً من عمليات تسلل. يأتي ذلك في وقت سمحت فيه الحكومة الاسرائيلية لوزير الدفاع يواف غالانت بإخلاء المستوطنات التي تبعد مسافة 5 كيلومترات عن الحدود اللبنانية إذا دعت الحاجة.
الراعي
من جهة ثانية، زار البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، أمس، رئيسة الحكومة الايطالية جورجيا ميلوني، وقد رافقه في الزيارة المطران يوحنا-رفيق الورشا المُعتمد البطريركي لدى الكرسي الرسولي ورئيس المعهد الحبري الماروني، والخوري جوزف صفير نائبه وقيّم الوكالة والمعهد.
ودار الحديث حول الأزمة السياسية في لبنان، المتمثّلة بعدم انتخاب رئيس للجمهورية، إضافة إلى أزمة النازحين السوريين.
وأشار الراعي الى «عدم انتخاب رئيس للجمهورية بشكل متعمّد خلافًا لمنطوق الدستور، وعدم تنفيذ اتفاق الطائف نصًّا وروحًا، فأصبحت البلاد من دون سلطة تحسم الخلافات والمخالفات، وكثرت الرؤوس، ودبّت الفوضى».
كما تحدث عن «تحديات تفاقم الأعداد الباهظة للنازحين السوريّين إلى لبنان، الذين باتوا يشكّلون 41 % من سكّانه، وعبئًا اقتصاديًّا وماليًّا ثقيلًا، وخطرًا سياسيًّا وأمنيًّا وطائفيًّا يُنذر بالانفجار»، داعياً «الأسرة الدوليّة إلى العمل بمسؤولية لإعادتهم ومساعدتهم على أرض سوريا في إعادة بناء بيوتهم، واستئناف حياتهم في وطنهم على المساحات الشاسعة الخالية من حال الحرب».
من جهتها أبدَت ميلوني اهتمامًا بالوضع في لبنان وخاصة لهذَين الموضوعَين، ووعدت بأن «تعمل ما في وسعها من أجل خلاص لبنان من معاناته وأزماته»، منوّهة بـ»قيمة هذا البلد ودوره المميز بين بلدان الشرق الأوسط».