في لبنان كلُّ شيءٍ مُنتهَك، بما في ذلك مصطلح "الدولة". وفيه، أنواع عدة من الدول الفاعلة والمؤثرة، إلا الدولة الحقيقية. لدينا الدولة "الموقوفة" عن السيادة منذ العام 1969 وحماية حدودها، سواء من اعتداءٍ إسرائيلي، أو "فتح لاند" وصولاً إلى تشريع الأبواب أمام النزوح السوري منذ العام 2011. وهناك الدولة "العميقة"، التي خبِرها اللبنانيون جيداً خلال أزمة 2019، والحاكمة منذ العام 1992، عبرَ المنظومة المصرفية – السياسية وأذرعها الإعلامية والأمنية والقضائية، وهي لا ريب إحدى أقوى هذه "الدول". ولدينا أيضاً "دولة" حزب الله في الدور الدفاعي، وهي أكثر تعقيداً من تلك "الدول"، لأنها أساساً نتاج لغياب الدولة الحقيقية، وترتبط مع ما تبقى من هيكل "الدولة" بعلاقات متشابكة تجمع ما بين تفادي الصدام وحفظ "الخصوصية" في التحرك. مع العلم أن هذه الدولة تحديداً بتعملقها العسكري، سرعان ما تصبح جُرماً صغيراً إزاء الدولة العميقة المتشابكة بين المصارف ومنظومة الفساد السياسية.
غير أنَّ إدارة ما تبقى من الدولة التي استُبيحت تدريجياً، هي خيار بأيدي القائمين عليها. ليس الموضوع هنا المسار الذي أوصل إلى هذا الهيكل المنخور المسمى "دولة"، بل بالقدرة على حمايتها بما تمثل من رمزية، أم التهافت على نهشِها ونخرِها.
ولعلّ أبرز الأمثلة الواضحة، تلك التي لا تحتاجُ إلى شرح. الغيبوبة التي تلف حكومة نجيب ميقاتي، إزاء الطوفان الفلسطيني وما تصنعه "حرب تشرين" الجديدة من تداعيات، كافية وساطعة. في الصورة صواريخ من الجنوب وحركة دبلوماسية ومواقف واضحة في الدول المجاورة لفلسطين ولو طبعّت مع إسرائيل، لكن في لبنان لا يوجد سوى الصمت. لا دبلوماسيةً نشطة حاضرة بقوة، ولا موقفاً له معنى، شيء ما يشبه القائمين على هذه المنظومة والحكومة.
لسنا هنا بالتأكيد أمام الدعوة إلى استعادة دولة المواجهة مع مكون لبناني في "حرب تموز"، ولا الدولة "الباكية" لفؤاد السنيورة في عجزها أمام التحولات. لكن صياغة موقف لبناني رسمي واضح مع حركة نشطة في الجوار العربي والمشرقي، لا تحتاج إلا قراراً وإرادة. على مأزقه الكبير، يمتلك لبنان كل المقومات والتراث ليقود دوراً نشِطاً في المحافل العربية والدولية، يكرّس دوره الواصل بين الغرب والشرق، وفي العالم العربي، على قاعدة حفظ الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني لا بل الدعوة إلى جهد عربي مشترك يواكب التغيرات العسكرية والميدانية والنفسية العميقة لحرب تشرين الفلسطينية، ويعيد إطلاق الحماية الدبلوماسية والسياسية لشعب فلسطين. وفي الداخل، لا يمكن أحداً أن يمنع أركان ما تبقى من هذا الهيكل من قياة مشاورات داخلية واسعة، تؤكد القواسم المشتركة في حفظ لبنان من التورط العسكري وفي الوقت نفسه إبداء كل الدعم الدبلوماسي والإنساني للقضية المشروعة للشعب الفلسطيني.
لكن كيف يُرتجى من العجز والإخفاق والإرتباك نجاحٌ إن لم نقل الحد الأدنى من وظائف الدولة؟
في عدم ضبط الحدود مع سوريا، صمت، وارتباك في العلاقة مع الدولة السورية. إزاء المحاسبة والإصلاح، ارتباك وصمت وتواطؤ. ومع "حرب تشرين" الفلسطينية، صمتٌ أكبر.
لعلّنا أمام مصطلح جديد في لبنان للدولة في مسارها الإنحداري مع منظومة التسعينات. "الدولة الصامتة"...
*رئيس تحرير tayyar.org