مضى أكثر من عقدين من الزمن غابت فيهما طرابلس، نسبياً، عن التفاعل مع القضايا العربية والقومية، بشكل بدت وكأنّها غير طرابلس التي يعرفها أهلها ويعرفها الآخرون، المدينة التي لم تكن تنام قبل أن تُعبّر عن إنتمائها وتضامنها وتعاطفها مع أيّ قضية عربية وقومية من المحيط إلى الخليج.
عملية “طوفان الأقصى” التي نفّذها المقاومون في قطاع غزّة فجّرت كلّ المكبوت في طرابلس دفعة واحدة، وأعادت المدينة إلى وضعها الطبيعي، تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً، الذي لا يجعل أيّ قضية عربية وقومية محقة تمرّ بلا خروج الجماهير تضامناً معها، تعبيراً عن إنتماء وعن عاطفة لم تغب عن المدينة يوماً.
بعد تحرير الجنوب في 25 أيّار عام 2000، عندما خرجت الحشود في طرابلس تُعبّر عن فرحها بانتصار لبنان والمقاومة على العدو الإسرائيلي، كانت المدينة تُعبّر عن مزاج شعبي معروف عنها، ويكاد يميزها عن أيّ مدينة أو منطقة لبنانية أخرى.
لكن بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005 بدت طرابلس وكأنّها لبست ثوباً غير ثوبها، وتبنّت خطاباً غريباً ليس خطابها، ومواقف لا تُعبر عن تاريخها وماضيها ولا عن إنتمائها ولا حاضرها، ما جعلها تبتعد عن التضامن مع القضايا العربية والقومية إلا على نحو خجول وعابر.
كانت الأيّام كفيلة بأن تعيد الأمور إلى نصابها على قاعدة “لا يصحّ إلّا الصحيح”، وأنّ روابط الدم والجوار والإنتماء القومي والديني لا يمكن أن تمحى وتُشطب وكأنّها لم تكن، وهو الأمر الذي أكدته التحرّكات الشّعبية التي جرت في اليومين الماضيين تضامناً مع القضية الفلسطينية والمقاومين في قطاع غزة.
مظاهر الفرح والإحتفاء بالنصر الذي حقّقه المقاومون في غزّة كانت واضحة في طرابلس أكثر من أيّ منطقة لبنانية أخرى تقريباً، أللهم باستثناء المخيّمات الفلسطينية، من مسيرات في شوارع وأحياء المدينة وهي ترفع الأعلام الفلسطينية وتبث الأناشيد الوطنية والقومية، إلى حواجز المحبة التي عمّت مختلف أحياء ومناطق المدينة وُزّعت خلالها الحلوى على المارّين إبتهاجاً، واللقاءات التضامنية مع القضية الفلسطينة، ما جعل طرابلس تعيش أجواء إنتماء وفرح غابت عنها منذ سنين، وتعود إلى ثوابتها الوطنية القومية والعربية.
وكان واضحاً أنّ حجم التفاعل الإيجابي في طرابلس، على الأرض وعلى منصّات وسائل التواصل الإجتماعي، والتضامن مع القضية الفلسطينية جاء في توقيت مناسب، تلقت خلاله المدينة دفعة معنوية إيجابية في واحد من أصعب الأزمنة التي عانتها وتعانيها طرابلس، سياسياً وإقتصادياً ومعيشياً وإجتماعياً، وجعل الطرابلسيين ومعهم اللبنانيون يثقون أنّ هذه الأزمات لا بدّ إلّا أنْ تنجلي يوماً، وأنّ الأيّام الصعبة لا يمكن أن تدوم إلى الأبد.