كل هذا الإحتقان نتيجة النزوح السوري، لا بد وأن ينفجر، عاجلاً أم آجلاً. الصفيح اللبناني الذي يغلي سوف يخرج من تشققات الأرض السياسية – الإجتماعية اللبنانية الهشّة، وسوف نشهد المزيد من حوادث مماثلة لما حصل في الدورة ليلاً.
ما يهز المجتمع اللبناني اليوم ويجعل النزوح السوري على كل شفةٍ ولسان يومياً، هو بالضبط لحظة الحقيقة التي تصفع الأوهام وتوقظ من بقي متهرباً أو عاجزاً مستكيناً، عدا المتآمر والمتواطئ. لكن هذه الحقيقة لن تعيد كل الخسائر التي يتكبدها لبنان، لا بل التشوه البنيوي العميق الذي يحدثه النزوح اجتماعياً بما في ذلك نتائجه الديموغرافية غير القابلة للتصحيح. ذلك أن الفرق أحد عشر عاماً بين الإستشراف والحس الوطني منذ العام 2012، وبين التآمر لتشريع الحدود والتورط في رهانات خاطئة في الحرب السورية وصولاً إلى رفض البحث بضبط النزوح، مع كل ما رافق ذلك من اتهامات عنيفة بمصطلح "العنصرية" الممجوج.
وإضافة إلى تذاكي الشخصية اللبنانية التقليدية التي تتاجر بكل شيء وتعتبر أن التلطي وراء هذه التجارة "شطارة" تكوينية، بما في ذلك الإستفادة من النزوح، تبرز ظاهرتا الإلتحاق والإستثمار كتعبيرٍ عن المأساة اللبنانية من قبل مجموعة منوعة بين قوى سياسية وشخصيات وطامحين وساعين لإرضاء الغرب وأوروبا المرتبكة في التعاطي مع قضايا الهجرة والنزوح.
ذلك أن قوى ما عُرف ب"14 آذار" التي راهنت على العودة من مطار دمشق وإسقاط النظام في سوريا في غضون أشهر، لا خيار أمامها وتجاه جمهورها والرأي العام اللبناني المحتفظ بأرشيف قياداتها، إلا المزايدة والهروب إلى الأمام وتطبيق "الإلتحاق" عملياً. والأنكى أنَّ الجريمة التي ارتبطت باستباحة الحدود وتأمين كل التغطية السياسية والإجتماعية والإعلامية لاجتياح النزوح وكل المقومات له من جانب هذا الفريق اللبناني، يحاولون اليوم القفز فوقها من دون أي تقديم مراجعة بالأحد الأدنى للبنانيين وكأنهم لم يخسروا كل تلك الفترة من مالهم ومدخراتهم ومستقبلهم المهدَّد بالإلغاء نتيجة هذا التآمر الداخلي الواضح.
وهذه القنبلة الموقوتة التي تتسارع دقات ساعة انفجارها، هي خير فرصة للإستثمار السياسي من سلسلة طويلة من المستثمرين. من الذين صمتوا كل تلك الأعوام وامتنعوا عن تأييد من رفضَ التساهلَ في قضية وجودية وانبروا اليوم ليوزعوا المواعظ والنصائح، إلى طامحين دائمين للتصدّر، وصولاً إلى الطموحات الرئاسية التي تجعل إدارة ضبط معابر التهريب والإلتزام بحماية أمن أوروبا فحسب، مسألة متحركة ومرتبطة بحسابات العلاقات مع الدول الغربية.
كل ذلك كان يمكن التخفيف منه لو تلمّس لبنان دعماً عملياً من قبل الدول الغربية والأوروبية، لا كلامياً أو مجرد مساعدات لا تغني ولا تُسمن عن دعم المجتمع اللبناني المضيف المُثقَل بالإنهيار. لكن لدى أوروبا كلامٌ آخر. فالوهم يسيطر على صناع القرار الأوروبيين بأن الضغط المكثف على لبنان سيحمي مجتمعاتها المتخوفة ودولها المأزومة اقتصادياً ويكرّس النازحين أمراً واقعاً. لكن حسابات الأوهام لا تطابق اهتزاز الواقع اللبناني، والذي سيتحول في لحظة الإنفجار شرارة لأضخم موجات النزوح البحري في اتجاه أوروبا، ولن تستطيع أي قوة عسكرية التحكم بالمجتمع السوري اليائس مع تجاوز قدرة التحمل اللبناني حدَّ الذروة، ولا التصريحات المجامِلة.
ولنا في التعاطي الأوروبي مع الحرب الأوكرانية والإستعداد للتهور في مواجهة روسيا حتى النهاية، مع كل الأزمات التي خلقتها "ميني" الحرب العالمية هذه، خير دليل على التأزم العميق في السياسات الأوروبية، وفشل الرهانات التي جعلت كل محيطها يتحول "ولّاداً" لأضخم موجات النزوح والهجرة في التاريخ الحديث...
*رئيس تحرير tayyar.org