في أغسطس/ آب 2023 صدر كتاب "الغريب" عن دار مدارك للنشر والتوزيع للكاتب والباحث الفلسفي السوري، خلدون النبواني، وبلغ عدد صفحات الكتاب مئتي صفحة، وهو عبارة عن سيرة ذاتية تطرح تساؤلاتٍ، وتحاول أن تبحث عن حلول ناجعة لها. إذ يُبرز الكاتب أهمية الفلسفة في معالجة الإشكاليات التي تواجهنا في حياتنا المعاصرة، وذلك من خلال عرضه لمجموعة من الحوارات واللقاءات التي تعبِّر عن أفكار عالجها خلال العقد الأخير من الزمن.
وقد سلَّط النبواني الضوء على الإشكاليات التي يواجهها المجتمع السوري عبر سردية السيرة الذاتية ليس بوصفه سورياً فحسب، بل لأنَّها إشكاليات تعانيها المجتمعات العربية كلُّها. وقد عرَّف النبواني كتابه في مقدمته بأنَّه سيرة ذاتية مواربة، متنكِّرة بالأفكار الفلسفية والانشغالات السياسية، حيث يُخضع النبواني في هذا الكتاب مفاهيم مختلفة للتفكيك على اعتبار أنَّ هذه المفاهيم قد تكون من أهم الأسباب التي تقف خلف الغربة والاغتراب موضوع هذا الكتاب.الوطنلا شك أنَّ "الغريب" لم يصل إلى هذه الغربة التي يتحدَّث عنها لو كان يملك وطناً يحقِّق فيه ذاته؛ ومن أجل ذلك كان لا بدَّ من تفكيك مفهوم الوطن ومعرفة ماهيته ليجد سبب الاعتلال، وهذا ما لجأ إليه النبواني عندما دعا إلى التحرر من المفهوم التقليدي الذي حوَّل الوطن إلى سجنٍ وأرضٍ للموت فلم يعد برأيه مكاناً ملائماً للولادة والحياة. وبحسب قاموس لسان العرب فإنَّ الوطن هو المكان الذي يحلُّ فيه الإنسان، ممَّا يشير إلى عدم الثبات الجغرافي، وتعدُّد الأوطان بتنوع أماكن الإقامة واختلافها، وأرى شخصياً أنَّ هذا التعريف أقرب إلى التصوُّر الذي يفضِّله النبواني؛ لأنَّه تمَّ باسم الوطن (سوريا) وباسم الدفاع عنه قتل الكثير من أفراده وتهجير معظمهم في أصقاع العالم.وهذا ما حدث في أوروبا في عهد الفاشيات حينما تمَّ تكبيل مفهوم الوطن وخنقه عبر الشعارات الكُبرى والقيم "السامية"، وحين مارست النازية والفاشية والستالينية نوعاً من السيطرة على عقول شعوبها من خلال تقديسها لمفهوم الوطن والوطنية؛ خدمة للحروب التي كانت تشتعل باسم الهويات والمصالح، فحدث تركيز أيديولوجي لجعل الولاء للوطن ولاءً مقدساً، وليصبح أسمى ما يفعله الفرد هو الموت في سبيل هذا الوطن. وهذا ما فعله النظام السوري، بل فعل أكثر من ذلك عندما دمج مفهوم الوطن بمفهوم الحاكم، فتحوَّل الدفاع عن الحاكم المستبد دفاعاً عن الوطن وسيادته المزعومة، وبذلك أصبح الوطن أداة للقمع والتهجير والقتل بعدما فصَّل الحاكم المستبد الوطن على مقاسه، وألبسه لبوساً يبقى ببقائه، وعليه أن يفنى بفنائه، لذا وجدنا شعارات على قبيل (الأسد أو نحرق البلد، والأسد أو لا أحد) بعد انطلاق ثورة الشعب السوري ضدَّ الوريث غير الشرعي الذي لم يكتف بسرقة منصب رئيس البلاد، بل سرق البلاد كلَّها، ثم قدَّمها للقوى الخارجية لحمايته وبقائه في منصبه.الهوية والأناالهوية في فلسفة أرسطو تعني تطابق الشيء مع نفسه، في حين أنَّ مفهوم الهوية برأي النبواني مفهوم متشظٍ، بمعنى "أنَّ الشيء يتكرر مراراً وعلى مرات عديدة بنسخ متشابهة. وبكلام آخر لم تعد الهوية جوهراً مُطلقاً ثابتاً لا يتغير بالمعاني البارمينيدية، وإنما صيرورة، تشابهٌ مستمرٌ سيّالٌ في الزمان بالمعاني الهرقليطية". ولتفكيك مفهوم الهوية ذهب النبواني إلى ميدان التحليل النفسي (التفكيك النفسي) ذلك أنَّ هذا التحليل يحيل مفهوم الهوية إلى معنى الأنا/ الذات، وبذلك لا يمكننا تحديد مفهوم الهوية من دون معرفة الآخر المقابل للذات، إذ لا يمكن أن تُعرف هذه الذات لولا وجوده المغاير لوجودها، وهنا تستحضرنا الهويات الداخلة في تركيبة الدولة السورية والتي تعرف ذاتها عبر تباينها مع غيرها من الهويات. ولم يكن هذا التباين الهوياتي يمثِّل أيَّ مشكلة حقيقة لولا التأجيج الوجودي الذي افتعله النظام الحاكم في بنية هذه الهويات عبر إيهامها بالخطر من بعضها البعض، وبأنَّه الوحيد القادر على ضمان استمراريتها الوجودية، وفعاليتها عبر سيرورة التاريخ، الأمر الذي أطال عمر سلطته الأيديولوجية القائمة على مبدأ استلاب الهويات وتغييبها عن لعب دورها الثقافي والسياسي، وتحويلها لهويات قاتلة.نعم، بالمعنى السياسي يحدث أن تتحوَّل الهوية إلى هوية قاتلة عندما "تظن أنَّ لها وجوداً أنطولوجياً قائماً على مقومات هوياتية جوهرية، بحيث تتوهَّم صفاءها، وتتمركز على نواتها المصطنعة، وتقضي على الآخر في حرب هويات قاتلة، من دون أن تدري أنَّها وبقتلها الآخر تقتل أناها هي في هذا الآخر"، فالهوية – كما أسلفنا- تستمدُّ ذاتها من الآخر، فكيف إذا قتلت هذا الآخر؟ ربما يكون الجواب في فكرة المجتمع المتجانس الذي دعا إليه رأس النظام السوري، وبدأ بمحاولة خلقه، لكن، ما تطوُّر الأحداث الأخيرة وعودة المطالبة بإسقاط النظام وتجدُّد المظاهرات السلمية في هذا المجتمع الذي يحاول اصطناعه، إلا دليل على سقوط هذه الفكرة وفشلها هوياتياً؛ لأنَّها دخلت وبشكل مباشر في مرحلة التآكل الذاتي لبنيتها المكوِّنة لها، ولأنَّها فقدت جوهر هويتها.يستمرُّ "الغريب"، وفي سعيٍ حثيث، للبحث عن ذاته، فيبحث عنها عبر تفكيك سلسلة من المفهومات التي تسبَّبت بمآسٍ بعد التمسُّك بمعناها الكلاسيكي غير المتجدِّد، كما يبحث عنها في الكتابة وطرح الأسئلة التي تشكِّل عماد الفلسفة ومهمتها، وهذا ما دفعه لتقديم كوجيتو الغريب الذي نسجه على منوال الكوجيتي الديكارتي: "أنا موجود إذن أنا غريب".