تحولت المسيرة التّي كان من المُزمع إقامتها ظهر اليوم السبت، 30 أيلول الجاري، من تجمعٍ حضاريّ يرمي في محصلته لتّكريس الحقّ والحريّة في التّعبير السّلمي والانتماء والتّنوع الفكريّ، لواقعةٍ مأساويّة، أكدّ فيها شطرٌ من الشارع اللّبنانيّ المُتأجج بالخواف والعصبيّة الدينيّة والطائفيّة والفكريّة، أنّه بعيدٌ كلّ البُعد عن تقبل واحترام الآخر، كما يُملي عليه الدستور اللّبنانيّ والأخلاقيات الإنسانيّة.
ومسيرة الحريّات (من ساحة رياض الصلّح لأمام وزارة الداخليّة) والمُنظمة من قبل عدّة جمعيات حقوقيّة، قد أُلغيت قبل ساعات من موعدها، فيما اكتفى بعضٌ من منظميها بالوقوف الرمزيّ أمام السّراي الحكوميّ، بُغية إلقاء بيانهم، وسط حضورٍ أمنيّ لمكافحة الشغب وشرطة مجلس النواب (تدخلت لاحقًا) والجيش اللّبنانيّ بأعدادٍ قليلة مُقارنة بحجم التّهديدات التّي طالت المسيرة. إلا أن الوقفة الرمزيّة، والتّي لم يتجاوز عدد المشاركين فيها العشرات، قوبلت بتظاهرة مُضادّة، لمجموعات إسلاميّة قيل أنها من الضاحيّة الجنوبيّة والطريق الجديدة) وأخرى لما يُسمى "جنود الرب"، كانت قد تمّ التّحضير لها منذ بداية الأسبوع تزامنًا مع الدعوات للمسيرة.عُنفٌ وتحريض ووعيدوعند السّاعة الرابعة، وفيما كان المشاركون في الوقفة الرمزيّة، في صدّد التّجمع في ساحة رياض الصلّح، كانت مواكب الدراجات الناريّة، المُنطلقة من تحت جسر "الكولا" (بحسب ما تمّ الدعوة له) قد وصلت إلى محيط التّظاهرة، من ساحة الشهداء وأسفل جسر "الرينغ"، وقد نصبت القوى الأمنيّة حاجزًا حديدًيا وبشريًّا، وسط الطريق المشتركة بين ساحة الشهداء وساحة رياض الصلّح، فصل الوقفة الرمزيّة عن الجماهير الغاضبة والمُتأججة. إلا أن ذلك لم يدم طويلًا، بحيث اقتربت الجماعات المُتشدّدة باتجاه الحاجز، فيما تقدم المشاركون بالوقفة، ووقفوا وجهًا لوجه، وعلّت أصوات المتظاهرين من الجهتين، بالتهديد والتّنظير والشتائم، التّي وُجهت للنساء حصرًا وتلاها وابلٌ من الشتم بحقّ مجتمع الميم – عين وقناة ال MTV، وذلك أمام عدسات كاميرات الإعلام.
وسرعان ما قامت الجماعات المُتشدّدة (بقيادة حسن شقير، المنتمي للحركة المُناهضة للمثليّة) بمحاولة عبور الحاجز الأمنيّ، لضرب المتظاهرات/ين، ورميهم بالحجارة وقوارير المياه. فحاولت العناصر الأمنيّة التّفريق بينهم. لكن الجماعات هذه أمسكت بأحد المُشاركين بالوقفة (نعتذر عن ذكر اسمه، لأن عددًا من المتشددين، يلاحقون وحتّى لحظة كتابة هذا التّقرير، المشاركين بالوقفة، بغية التّشفي منهم والتشهير بهم) وقامت بالاعتداء عليه جسديًّا، ما أسفر عن نزيف في وجهه ومختلف أنحاء جسده، بل وتحدث مقربون منه عن كسور في الوجه وتحديدًا الأنف، ورضوض انتشرت في جسده. ولما حاول المتظاهر سلميًّا الهرب، ركضًا، باتجاه ساحة الشهداء، تمّ اللحاق به بفوجٍ من الدراجات الناريّة، واستكمال تعنيفه أمام مرأى الإعلام والأجهزة الأمنيّة. فيما تمّ ضرب شاب آخر، تحدثت معطيات عن كونه صحافيًّا.
وعادت هذه الأفواج لتطوق محيط ساحة رياض الصلح، وتُحاصر المُحتجين، فيما وقفت الأجهزة الأمنيّة الحاضرة في وجههم. وفي هذه الأثناء تلّت الصحافيّة حياة مرشاد، البيان الذي تمّ تحضيره للوقفة، مُشيرةً فيه أن المسيرة التّي أُلغيت لتُستبدل بالوقفة الرمزيّة هذه، سُميت بمسيرة "الحريّات"، كموقف رسميّ أمام السّلطات المتواطئة في مشروع قمع الحريّات وتهميشها أكان الحريّات الفرديّة والصحافيّة والنقابيّة وغيرها، وجاءت كردّة فعل إزاء كل المواقف القمعيّة والمحاولات الحثيثة لتكميم الأفواه، لصالح النزعة المُتشدّدة وغير المُتقبلة للتنوع الفكريّ والجنسيّ والجندريّ والسّياسيّ…تعنيف الصحافيين والمصورينولحظة انهاء مرشاد لبيانها، لوحظ تجمهر لعددٍ من المتظاهرين أمام الحاجز المقام باتجاه ساحة الشهداء، ليتبين أن عناصر مكافحة الشغب قد أوقفوا مشاركًا بالوقفة، لمنعه من التّصوير، وانهالوا عليه بالشتم والتعنيف والضرب، طالبين منه إزالة أي فيديو أو صورة تُظهر العناصر، عن هاتفه. فيما قامت العناصر، بأمر المصورين بإنزال كاميراتهم، ثمّ بإنزالها بأديهم قسرًا، وتمّ توقيف الصحافي جان قصير ومطالبته بوقف التّصوير لكن الصحافيّ رفض، مبرزًا بطاقته الإعلاميّة. فيما أُصيب عددٌ من الصحافيين بكدمات على أجسادهم نتيجة الضرب المُبرح على يدّ الجماعات المُتشدّدة والقوى الأمنيّة.
مُحاصرة واعتداءوعند حوالى الخامسة، حاصرت الجماعات المُتشدّدة، كل منافذ ساحة رياض الصلّح، وبقيّ الواقفون نحو السّاعة محاصرين، حتّى تمكنت الجماعات المُتشدّدة من الولوج إلى السّاحة، وتحت مرأى العناصر الأمنيّة، وهمّوا بالاعتداءات المتفرقة على الصحافيين والمشاركين، وحتّى المارين من السّياح الأجانب، فيما لم تقم الأجهزة الأمنيّة بأي محاولة جديّة لفض النزاع الذي هيمن فيه طرفٌ على الآخر من حيث العديد والعتاد. وتمّ إدخال ما تبقى من الواقفين والصحافيين في شاحنات قوى الأمن لحمايتهم، والتّي حوصرت بدورها. هذا واعتبر عدد من المشاركين أن القوى الأمنيّة "تقصدت" التّواطؤ مع الجماعات المُتشدّدة بأمرٍ من وزير الداخليّة بسام المولوي المعروف بموقفه تجاه مثل هذه التّجمعات، فيما نفى عددٌ آخر أي تواطؤ، معبرين عن كون ما حصل، خارج عن إرادة هذه العناصر.
شعبيًا، لوحظ على صفحات التّواصل الاجتماعي، بعض تهليل لما قامت وتستمر بفعله هذه الجماعات، التّي قامت عنوةً بالاعتداء اللّفظيّ والجسديّ بحقّ المتظاهرين، بل وبتصويرهم والتّشهير بهم على منصات التّواصل الاجتماعيّ، وملاحقة عدد منهم إلى بيوتهم والأزقة المحيطة للواقعة.
وأشار عددٌ من المراقبين لـ"المدن" أنه كان من الأجدى التّراجع عن المسيرة والوقفة، لا استسلامًا لقوى الأمر الواقع، بل احتياطًا، وحفاظًا على سلامة المشاركين، الذين عاشوا لحظات مُرعبة، فقط لتمسكهم بما يكفله لهم الدستور، لجهة حريّة التجمع السّلمي والتعبير السّلمي.
وقامت "المدن" بتوثيق كافة الاعتداءات التّي لحقت المشاركين بالوقفة على يدّ الجماعات المُتمكنة عددًا، والتّي لم يلحق بها أي ضرر جسديّ أو شكل مقاومة عنيف من قبل المتظاهرين السّلميين، بل سجلت محاولات جمّة لمحاورتهم، ومحاججتهم بالمنطق والدين. لكنهم أنفوا الاصغاء وفضلوا المضيّ في مسلك القمع والاضطهاد غير العقلانيّ. وإذ تحفظت "المدن" عن نشر أي أسماء للذين تعرضوا للاعتداءات، فذلك لسلامتهم الشخصيّة والمعنويّة.