تزداد معركة الرئاسة اللبنانية سخونة مع اقتراب موعد انطلاقها بانتظار إعلان رئيس مجلس النواب فتح الجلسة الانتخابية بدورات متتالية دون تعطيل، في حين أن الوضع السياسي أصبح برمته أمام منزلق خطير اسمه طاولة الحوار.
تجري الآن على الساحة اللبنانية حوارات ثنائية شملت معظم ممثلي القوى السياسية الفاعلة والكتل النيابية لأيام متتالية يديرها “مسيو” لودريان الدبلوماسي المخضرم والمبعوث الرسمي للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون.
في هذا السياق، أردتُ الإضاءة ولو بقدر قليل، على مقولة حوارنا السياسي المطروح والجدل القائم حوله في جميع الساحات، بهدف توضيح مفهوم “الحوار السياسي” القائم بمقاربته تحت سقف المعايير المتعارف عليها في المجتمعات الرائدة فكريا وإيصال هذا المعنى إلى مسمع المجتمع اللبناني حتى لا يؤخذ عليه، أي الشعب اللبناني، أنه ذاهب إلى التشدد الفكري دون تمكنه من حلحلة أزماته الراهنة، شريطة أن يميِّز المواطن ما بين أسلوب “الفن الممكن في السياسة” أو اتباع ما نص عليه الدستور اللبناني.
نظامنا اللبناني قائم على ديمقراطية الانتخابات البرلمانية الحرة بدون قيود، كما جاء في البند رقم 49 من الدستور اللبناني، وعلى احترام جميع النصوص والمهل الدستورية في حالة الشغور الرئاسي. فلا حوار ولا تشريع قبل الانتهاء من انتخاب رئيس للجمهورية.
في المطلق، لا يوجد بلد ناجح متمدن يقف سياسيوه ضد مبدأ الحوار والتواصل مع الآخر. إن الحوار السياسي في جوهره ثقافة وأسلوب متمايز، إنما هناك ضوابط تتحكم عند إطلاق أي طاولة حوار بين الأفرقاء المتحاورة أو المتنازعة في الرأي. هو أيضا ضرورة للتوصل إلى آراء وسطية والابتعاد عن التشدد والاستفزاز. يسوده التعامل على أسس الاحترام المتبادل بين الأطراف المعنية. عند بدء أي حوار يجب المفاضلة بين الثوابت والمتغيرات. فالثوابت الوطنية لا يمكن الاختلاف عليها، يبقى الاختلاف حول المتغيرات التي تمثل القضايا السياسية. بالتالي تصبح هذه مخرجات الحوار مع اتفاق مسبق حول القضايا المطروحة للنقاش. ولتوضيح الفكرة أكثر تفصيلاً، المطلوب أقله، تعريف هذا الحوار، آليته والنقاط المدرجة للنقاش على أن ترسل إلى جميع الأطراف المتحاورة لإضافة أو حذف أي بند من أجندة الاجتماع. كل هذا يسبق أي حوار أو تشاور حتى يسلك طريقه للنجاح.
هذا المسار يأخذنا مباشرة إلى الفرق ما بين المفاوضات والحوار. ففي المفاوضات تحدث التنازلات تلقائيا والوصول إلى حالة الاتفاق. من المؤكد أنه لا يوجد في حالة الحوار طرف خاسر حينها يجري تبادل الأفكار والنقاش حول النقاط المتنازع عليها وصولا إلى التوافق المنشود. من الطبيعي أن يأخذ الحوار السياسي عدة أشكال منها الحوار الجماعي أو الثنائي. هذا ما جرى جزء منه على الساحة اللبنانية وشاركت فيه الأطراف السياسية، إنما افتقد عنصرا أساسيا وهاما لأجل تطبيقه بصورة صحيحة وقبوله من الآخر وهو أن يرأس طاولة الحوار حكما محايدا وليس طرفا أو خصما في نفس الوقت. في كلتا الحالتين المحاور أو الوسيط الفرنسي منذ انطلاق فكرته طاولة العمل (Table de Travail) يحمل في جعبته الدبلوماسية من قصر الاليزيه في باريس اسم المرشح الوزير السابق سليمان فرنجية وهذا ما جاء لأجله. أما المحاور الآخر دولة الرئيس بري فهو من رشح الوزير السابق فرنجية ومن ثَمَّ أطلق دعوة الحوار فكان شعار فريق الممانعة منذ البداية هو “الحوار ثم الحوار والحوار فقط”.
موقف النائب جبران باسيل مازال رمادياً، يصعب التنبؤ به، ذلك بسبب المفاوضات القائمة مع حزب الله ومطالب باسيل التعجيزية والمقايضة في الملف الرئاسي.
من جهة أخرى، موقف المعارضة ثابت لم يتغير وهو الذهاب إلى البرلمان وعدم إجراء حوار قبل انتخاب الرئيس.
أما نواب السنة، فإن سعادة السفير السعودي وليد البخاري، بلفتة دبلوماسية مميزة، استطاع أن يجمع في دارته 21 نائبا سنيا من أصل 27، اثنان منهم لم توجه لهما الدعوة والأربعة الباقون لم يشاركوا لأسباب مختلفة. كان اللقاء جامعا، لتكريم سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية عبد اللطيف دريان، بمناسبة تمديد ولايته. شارك في اللقاء المندوب الرئاسي الفرنسي واستمع لموقف نواب السنة المتغاير من آلية الحوار مع التزامهم الكلي بعدم مقاطعة الجلسات.
يبقى موقف كتلة اللقاء الديمقراطي، فزعيم المختارة ظلَّ على رأيه دون تبديل وأطلق صيحة مدوية في ذكرى مصالحة الجبل ضَمَّنها رسالة وجهت إلى كل من أمريكا وإيران من أجل حل الملف الرئاسي.
مع انتهاء زيارة المبعوث الفرنسي كيف تُقرأ نتائجُها؟ لا أظن ان الزيارة أحدثت تغييرا كبيرا في الأزمة الرئاسية إنما أوضحت بعض الأمور الضبابية أبرزها:
– تأكيد لودريان أنه يعمل بتنسيق كامل مع اللجنة الخماسية ويلتزم بما نص عليه البيان الرسمي الصادر في باريس والدوحة.
– سقوط ورقتي أزعور وفرنجية.
– تقارب مسار الحوار الفرنسي واللبناني والتساهل في التسميات: تشاور بدل حوار.
– عدم التوصل حتى الساعة لمن يرأس طاولة الحوار، علماً أنَّ طرح اسم نائب رئيس المجلس النيابي أُعتبر هرطقة في السياسة.
وهكذا تركت جميع الأبواب مفتوحة لزيارة قادمة لم يحدد بعد موعدها، مع تأكيد المبعوث الفرنسي لودريان أن المهام الجديدة التي أوكلت إليه في السعودية لا تتعارض مع متابعة الملف الرئاسي في لبنان.
وطويت زيارة “مسيو” لودريان أمام محاولة أخيرة أو تشاور جديد مع الموفد القطري وما يحمله من حلول في زيارته المرتقبة إلى لبنان. بانتظار ما تحمله لنا الأيام القادمة من رسائل مشفرة عابرة للحدود فالحل ما زال في المجهول.
حمى الله لبنان واللبنانيين
الكاتب: المهندس شفيق ملك