الصراعات السياسية والارتهان الخارجي يمدّدان أمد الأزمة السياسية الحالية. فبعد أن كانت الأجواء تتجه نحو الحوار الذي دعا إليه الرئيس برّي، عاد التشاؤم ليكون سيد الموقف مع التبدّل في موقف التيار الوطني الحرّ والذي عبّر عنه رئيسه النائب جبران باسيل خلال كلمته في عشاء هيئة قضاء البترون، مما يعني أن الغالبية المسيحية (القوات اللبنانية والتيار الوطني الحرّ والكتائب اللبنانية) لن تشارك في الحوار، وهو ما يرفع عنه صفة الميثاقية التي لطالما نادى بها الرئيس نبيه برّي ودافع عنها في موافقه السياسية حيث كان اشترط مشاركة كل الكتل النيابية في هذا الحوار حتى لا يكون مبتوراً. لذا يمكن القول إن الحوار أصبح في الثلاجة بانتظار المعطيات الخارجية، وعلى رأسها زيارة المبعوث الرئاسي الفرنسي لودريان إلى بيروت الاثنين المقبل.
مبادرة برّي
مباردة الرئيس برّي شكّلت بارقة أمل الأسبوع الماضي مع تأييد ما يقارب الثمانين نائبًا، من بينهم التيار الوطني الحرّ الذي تجاوب بشكل إيجابي في البداية مع المبادرة، ليعاود ويغيّر رأيه من خلال موقف باسيل أول من أمسّ. وهو أثار غضب النائب علي حسن خليل الذي قال إن باسيل انقلب على المبادرة بعدَ أن شعر بحجم التجاوب الكبير معها، واتهمّه بتعطيل الحوار من خلال فرض شروط بهدف المقايضة. وبالتحديد، تقول أوساط مراقبة ان تبديل باسيل لرأيه بين مؤيّد للمبادرة إلى معارض لها قد يكون له سببان: الأول له علاقة بما وصفه حسن خليل برغبة التيار الوطني الحر مقايضة المشاركة في الحوار بعدد من المكتسبات، خصوصًا أن لا مكاسب مباشرة للتيار نتيجة هذا الحوار، والثاني ترؤس نائب رئيس مجلس النواب الياس أبو صعب الحوار بعد تنحي الرئيس برّي وتزكية بو صعب لهذه المُهمّة معتبرًا نفسه (أي برّي) طرفًا في الحوار. وتُضيف الأوساط أنه بغض النظر عن سبب تبديل التيار الوطني الحر لرأيه، هناك شيء أكيد هو أن التيار لم يحصل بعد على ما يريده من مفاوضاته مع الحزب.
الوساطة الخارجية
على الصعيد الرئاسي، تدخل قطر على الملعب الرئاسي من الباب العريض، وهي عضو في المجموعة الخماسية بشأن لبنان والتي تضمّ الولايات المتحدة وفرنسا وقطر والسعودية ومصر. ويزور المبعوث الفرنسي لودريان بيروت الاثنين في جولة من المتوقّع ألا تؤدّي إلى حلحلة في الملف الرئاسي، مع التجاوب السلبي من قبل المعارضة والرفض القاطع للردّ على أسئلة لودريان التي أرسلها إلى الكتل النيابية. وتقول المصادر المواكبة للحراك الخارجي ان هذه الزيارة ستكون الأخيرة للموفد الفرنسي قبل تسلّمه مهامه في المملكة العربية السعودية.
من جهتها، لم تتوقف الجهود القطرية بالتوازي مع الحراك الفرنسي في المرحلة الماضية، حيث تمّ الحديث عن عشرات الموفدين الذي أتوا إلى لبنان والتقوا بمسؤولين سياسيين بعيدًا عن الأضواء. وبالتالي ستكون مُهمّة القطريين في المرحلة المقبلة ودخولهم على خط الوساطة الرسمية بتكليف من المجموعة الخماسية، إظهار مواقف القوى السياسية ووضع السيناريوات الممكنة بهدف حسم اللعبة من قبل المجموعة الخماسية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.
وإذا كانت المعلومات الصحافية قد أشارت إلى توجّه المجوعة الخماسية إلى تبنّي ترشيح قائد الجيش جوزيف عون، إلا أن الأمر يبقى رهينة التوافق الأميركي – الإيراني. من هنا، أتى دور قطر وهي التي تحفظ علاقات جيّدة مع إيران، وبالتالي يُمكنها التواصل معها بشكل فعّال في الملف الرئاسي اللبناني على خلاف الفرنسيين الذي لم ينجحوا في هذه المُهمّة، لا بل على العكس اتهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إيران بتعطيل الانتخابات الرئاسية، وهو ما عقّد مُهمّة الوساطة الفرنسية.
إرتفاع حظوظ قائد الجيش أصبح ملموسا من خلال الاهتمام الدولي بقائد الجيش والمشاركة الديبلوماسية في حفل إعلان جرود عرسال ورأس بعلبك خالية من مخلّفات الحروب، والذي إن دلّ على شيء فيدلّ على ازدياد الاهتمام الدولي بقائد الجيش وإيصاله إلى سدّة الرئاسة الأولى. الجدير ذكره أن عون انتقد بشدّة تشكيك البعض في الجيش اللبناني، ودعاهم إلى زيارة الحدود، والاطلاع ميدانيًا على الوضع الذي يُنذر بالأسوأ قريبًا، والوقوف خلف الجيش لأنه صمّام الأمان للبنان.
منصّة بلومبرغ
إقتصاديًا، كان ملفتًا إقرار مجلس الوزراء لمنصة بلومبرغ كبديل عن منصّة صيرفة، وذلك بهدف تحرير سعر صرف الليرة اللبنانية عليها مقابل الدولار الأميركي. وأشارت مصادر المصرف المركزي إلى أن هذه المنصّة ستؤمّن الشفافية المطلوبة في السوق وستزيد ثقة المجتمع الدولي وستقلّل من المضاربة. الخبراء الاقتصاديون (بمعظمهم) أكدوا على شفافية منصة بلومبرغ، إلا أنهم تمايزوا في تداعياتها. فهناك من قال ان هذه المنصّة ستُعرّي الليرة بالكامل، وسيكون سعر الصرف رهينة مباشرة للتطورات الاقتصادية والنقدية والسياسية، مضيفين أن الودائع التي ستُردّ بالليرة اللبنانية على هذا السعر (عبر إلغاء تعاميم مصرف لبنان 151، 158، و161) ستؤدّي حكمًا إلى فلتان السعر على المنصة، خصوصًا أن هناك توجّها واضحًا من قبل حاكم المركزي بالإنابة وسيم منصوري بعدم التدخّل بالسوق. ويقول البعض الاخر أن المخاطر ستأتي من باب أن هذه المنصّة ستراقب حركة الكاش في لبنان حيث لا يمكن لأي شخص أو مؤسسة التداول عليها من دون تبرير مصدر الأموال، وهو ما يجعل قسما كبيرا من هذه الأموال خارج المنصّة (سواء بسبب التهرّب الضريبي أو التهريب الجمركي أو النشاطات غير الشرعية الأخرى) أي بمعنى آخر، أن السوق السوداء ستنشط أكثر وسيكون هناك زيادة في التهرّب من كل ما هو رسمي، أي سوق العملات والاستيراد، وسيكون هناك فصل كبير بين الرسمي وغير الرسمي. وشكّك بعض الخبراء في نجاح المنصّة، خصوصًا أن تشغيلها يتطلّب وساطة مالية من خلال المصارف والشركات المالية، وهو أمر غير مؤمّن حاليًا مع فقدان الثقة بالمصارف والشركات المالية. وبالتالي من سيتولّى عملية الوساطة؟
أسئلة كثيرة لا تزال تحوم حول تفاصيل وآليات عمل منصة بلومبرغ، خصوصًا مكانها (بيروت أو الخارج)، والوساطة المالية، وآلية العمل، والجهة الرقابية… إلا أن الأكيد أن هناك رغبة دولة أصبحت واضحة بأن هذه المنصّة هي التي ستُعتمد في المرحلة المقبلة.
الدور الأميركي
تقول مصادر سياسية مخضّرمة أن كل ما يحصل حاليًا على الصعيد المالي والسياسي، هو نتاج إعادة مسك زمام الأمور من قبل المجتمع الدولي، وخصوصًا اللاعب الأساسي، أي الولايات المتحدة الأميركية. وتُضيف هذه المصادر أن الولايات المتحدة الأميركية التي تبني أكبر سفارة لها في الشرق الأوسط، لن تترك لبنان لنفوذ دول أخرى، وبالتالي ستعمد إلى حلّ كل المشاكل التي يعيشها لبنان من سياسية واقتصادية ومالية ونقدية قبل بدء العمل بالسفارة الجديدة. إلا أن هذا الأمر لن يحصل إلا بعد مخاض قد يكون قاسيا على الشعب اللبناني، وهو ما نعيشه حاليًا مع احتمال ازدياد قساوة الظروف الاقتصادية والاجتماعية وحتى الأمنية، أقلّه حتى نهاية العام الحالي. وبالتحديد، تتخوّف هذه المصادر من أن تكون اشتباكات عين الحلوة مقدّمة لاضطرابات أوسع قد تفرض واقعًا جديدًا بعد دخول نازحين سوريين – يُقال ان معظمهم من الشباب المقاتل – ومن دور محضّر لهم، سواء داخل المخيمّات أم خارجها.