لا يوجد مفرّ من العودة دوريًا إلى الميزانيّات المجمّعة للقطاع المصرفي، التي تعبّر عن ما تبقّى في القطاع من ودائع وقروض وموجودات سائلة أو قابلة التسييل. وأهميّة مراجعة هذه الأرقام، لا ترتبط حتمًا بالدور الاقتصادي الذي يؤدّيه القطاع اليوم، بعدما بات ممتنعًا عن أداء دوره المالي البديهي، في استقطاب الودائع ومنح القروض. بل تكمن أهميّة هذه المراجعة في تتبّع تداعيات المراوحة القاتلة والمتعمّدة، التي حالت دون الشروع في إعادة هيكلة المصارف ومعالجة أزمتها، منذ العام 2019. عند مراجعة الميزانيّات المجمّعة، يمكن قياس الكلفة التي مازال المودع يدفعها جرّاء أزمة القطاع، كما يمكن احتساب قدرة القطاع اليوم على ضمان الحد الأدنى من حقوق المودعين.تصفية 30.7 مليار دولار من الودائعأرقام الميزانيّة المجمّعة في نهاية النصف الأوّل من العام 2023، تشير إلى أنّ ما تبقى من ودائع بالعملات الأجنبيّة يبلغ حدود ال92.9 مليار دولار أميركي، مقارنة بنحو 123.6 مليار دولار أميركي قبل بدء الأزمة. بهذا المعنى، يصبح من الواضح أنّ المصارف تمكّنت من تصفية 30.7 مليار دولار أميركي من الودائع، خلال السنوات الأربعة الماضية، وهو ما يوازي ربع الودائع التي كانت موجودة قبل حصول الانهيار. باختصار، كانت حالة المراوحة التي عاشها لبنان خلال السنوات الأربعة الماضية فرصة لتقليص إلتزامات المصارف للمودعين لديها، بطرق متنوّعة.
تقليص الإلتزامات وتصفية الودائع، حصل بطرق عديدة، تحمّل كلفتها في جميع الحالات المودع نفسه. فجزء أساسي من الودائع خرج من الحسابات المصرفيّة على شكل شيكات، لتُباع في السوق أو تُستعمل لشراء عقارات، وبحسومات كبيرة من قيمة الودائع الفعليّة، قبل أن تُستعمل هذه الشيكات لإطفاء القروض المصرفيّة. أمّا الجزء الآخر، فتم سحبه وفقًا لتعاميم مصرف لبنان، التي حمّلت المودع اقتطاعات وازنة جرّاء أسعار الصرف المنخفضة المعتمدة للسحوبات بالليرة من الحسابات المدولرة.
مراجعة أرقام القروض، تؤكّد الدور الذي لعبته تجارة الشيكات والعقارات في إطفاء الديون المستحقة لصالح المصارف، من أموال الودائع. فحتّى أواخر النصف الأوّل من 2023، كان حجم القروض المصرفيّة بالعملات الأجنبيّة قد انخفض ليوازي حدود الـ 9.3 مليار دولار، مقارنة بأكثر من 54.2 مليار دولار في بداية الأزمة. وهذا ما يعني أنّ المصارف تمكنت من تصفية 44.9 مليار دولار من القروض التي كانت مترتبة على عملائها منذ العام 2019، إمّا عبر تسديدها بالشيكات المصرفيّة، أو بدفعات بالليرة اللبنانيّة وبسعر الصرف الرسمي في بدايات الأزمة.هذا ما يمكن ضمانه من الودائععلى أي حال، تشير أرقام القطاع كذلك إلى أنّ حجم السيولة المتوفّرة بيد المصارف، والمودعة في المصارف المراسلة، لم يعد يتخطّى الـ 4.4 مليار دولار أميركي، مقارنة بنحو 8.4 مليار دولار أميركي قبل بدء الأزمة المصرفيّة عام 2019. وهذا ما يشير إلى أنّ القطاع المصرفي خسر أكثر من نصف السيولة المتوفّرة لديه في الخارج، منذ بدايات الأزمة، بغياب قانون للكابيتال كونترول لضبط وجهة استعمال هذه المبالغ.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الاحتياطات المتبقية لدى مصرف لبنان، من أموال المصارف المودعة لديه، باتت تقارب حدود الـ 8.64 مليار دولار، كما تُظهر الميزانيّة النصف شهريّة التي ينشرها المصرف المركزي. وبذلك، تصبح قيمة هذه الاحتياطات، مع قيمة السيولة التي تملكها المصارف في الخارج، لا تتجاوز مستوى الـ 13.04 مليار دولار، وهو ما يمثّل كل سيولة القطاع الجاهزة الموجودة في مصرف لبنان أو لدى المصارف المراسلة.
في خلاصة الأمر، لم تعد سيولة القطاع المصرفي، المودعة في مصرف لبنان أو في المصارف المراسلة، تتجاوز حدود ال14% من قيمة الودائع المترتبة على القطاع بأسره، ما يؤشّر بوضوح إلى تناقص النسبة التي يمكن ضمانها اليوم من إجمالي الودائع المصرفيّة.الرساميل مازالت قائمةالملفت للانتباه، هو أنّ حجم رساميل القطاع، أي مساهمات أصحابه، مازالت حتّى نهاية النصف الأوّل من 2023 توازي حدود الـ 6.8 مليار دولار، بعد أن خسرت نحو 51% من قيمتها جرّاء تقييمها وفق سعر الصرف الرسمي الجديد. بهذا المعنى، ورغم كل الخسائر التي طالت المودعين في القطاع، لم يفرض مصرف لبنان على المصارف اتخاذ الإجراء البديهي التي يفترض أن يتم اتخاذه: شطب رساميل المصارف وإعادة رسملتها، قبل تحميل المودعين أي نسبة من الخسائر. وهذا الواقع يتصل حكمًا بخريطة الطريق التي وضعها مصرف لبنان لإعادة هيكلة القطاع، والذي ذهبت باتجاه حماية الرساميل القائمة بدل فرض إعادة الرسملة.
على المقلب الآخر، تُظهر الميزانيّة المجمّعة أنّ ما تبقى من محفظة سندات اليوروبوند، التي تملكها المصارف، لم يعد يتجاوز حدود 2.8 مليار دولار أميركي في أواخر النصف الاوّل من العام 2023، مقارنة ب14.8 مليار دولار أميركي في بدايات الأزمة. وهذا الواقع نتج تحديدًا من بيع المصارف اللبنانيّة لحيازاتها من سندات اليوروبوند للمستثمرين الأجانب، وهو ما بات يصعّب اليوم مهمّة الدولة اللبنانيّة في الاتفاق مع الدائنين لإعادة هيكة الدين العام. مع الإشارة إلى أنّ الدولة اللبنانيّة لم تبدأ أساسًا مهمّة التفاوض مع هؤلاء الدائنين حتّى هذه اللحظة.
في النتيجة، ومع مرور كل يوم، تزداد الخسائر المجتمعيّة التي تتحمّلها كل شرائح المقيمين في البلاد، جرّاء استمرار أزمة النظام المالي والقطاع المصرفي، بغياب أي خطّة متكاملة وشاملة للحل. كما يستمر الاقتصاد المحلّي بمواجهة التداعيات الناشئة عن عدم توفّر خدمات الادخار والإقراض، التي يفترض أن تقدّمها في العادة المصارف في أي دولة. وحتّى هذه اللحظة، مازالت الحلول معلّقة بالتشريعات التي يفترض أن يعمل عليها المجلس النيابي، في ضوء خطّة التعافي المالي، والتي لم يبدأ النقاش الجدّي فيها بعد.